في من. والفرق بينه وبين ما قبله : أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد ، وفي هذا الوجه اثنان ، وكان جعل من معمولا للعامل في الظرف ، أو في موضع الصفة لشهادة ، أحسن من تعلق من بكتم ، لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها. وعلى التعلق بكتم ، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم ، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية ، لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر ، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها ، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم ، قال الزمخشري : ويحتمل معنيين : أحدهما : أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ، لأنهم كتموا هذه الشهادة ، وهم عالمون بها. والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة ، لم يكن أحد أظلم منا ، فلا نكتمها ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته. انتهى كلامه ، والمعنى الأول هو الظاهر ، لأن الآية إنما تقدّمها الإنكار ، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه. فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب ، لا مع الرسول صلىاللهعليهوسلم وأتباعه ، لأنهم مقرون بما أخبر الله به ، وعالمون بذلك العلم اليقين ، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك.
وذكر في (ريّ الظمآن) : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : ومن أظلم ممن كتم شهادة حصلت له؟ كقولك : ومن أظلم من زيد؟ من جملة الكاتمين للشهادة. والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهودا ونصارى. ثم إن الله كتم هذه الشهادة ، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب ، علمنا أن الأمر ليس كذلك. انتهى. وهذا الوجه متكلف جدّا من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول. أما من حيث التركيب ، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير ، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر. وأيضا ، فيبقى قوله : ممن كتم ، متعلق : إما بأظلم ، فيكون ذلك على طريقة البدلية ، ويكون إذ ذاك بدل عام من خاص ، وليس هذا النوع بثابت من لسان العرب ، على قول الجمهور ، وإن كان بعضهم قد زعم أنه وجد في لسان العرب بدل كل من بعض. وقد تأوّل الجمهور ما أدّى ظاهره إلى ثبوت ذلك ، وجعلوه من وضع العام موضع الخاص ، لندور ما ورد من ذلك ، أو يكون من متعلقة بمحذوف ، فيكون في موضع الحال ، أي كائنا من الكاتمين الشهادة. وأما من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جرّ بمن يكون على تقدير : أي إن كتمها ، فلا أحد أظلم منه. وهذا كله معنى لا يليق بالله تعالى ، وينزه كتاب الله عن ذلك.