اليهودية والنصرانية. وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه ، لأن اتباع أحبارهم ربما توهموا ، أو ظنوا ، أن أولئك كانوا هودا أو نصارى لسماعهم ذلك منهم ، فيكون ذلك ردّا من الله عليهم ، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا ، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء ، وردّ عليهم بقوله : أأنتم أعلم أم الله ، لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول : الله أعلم ، فكان ذلك أقطع للنزاع.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) : وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية ، لكنهم كتموا ذلك. وقد تقدّم الكلام على هذا الاستفهام ، وأنه يراد به النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن كتم. وتقدّم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (١) ، والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود ، وقيل : المنافقون تابعوا اليهود على الكتم. والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والربيع ، أو ما في التوراة من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم ونبوته ، والأمر بتصديقه ، قاله قتادة ، وابن زيد ؛ أو الإسلام ، وهم يعلمون أنه الحق. والقول الأول أشبه بسياق الآية.
من الله : يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم ، ويكون على حذف مضاف ، أي كتم من عباد الله شهادة عنده ، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله ، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق. ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف ، إذ الظرف في موضع الصفة ، والتقدير : شهادة كائنة عنده من الله ، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة ، وحصلت عنده من قبل الله ، واستودعه إياها ، وهو قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (٢) الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه : فمن على هذا متعلقة بعنده ، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور ، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز. وقال الزمخشري : أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها ، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ومن في قوله : شهادة من الله ، مثلها في قولك : هذه شهادة مني لفلان ، إذا شهدت له ، ومثله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٣). انتهى. فظاهر كلامه : أن من الله في موضع الصفة لشهادة ، أي كائنة من الله ، وهو وجه ثالث في العامل
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١١٤.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٧.
(٣) سورة التوبة : ٩ / ١.