الختم بينه وبين القلوب ، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار. لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (١). وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان ، أو على التوكيد ، إن كان الختم واحدا فيكون أدل على شدة الختم.
وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار. وأما الجمهور فقرأوا على التوحيد ، إما لكونه مصدرا في الأصل فلمح فيه الأصل ، وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع ، وإما لكونه مصدرا حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم. وقد اختلف الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل ، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء. والإمالة في أبصارهم جائزة ، وقد قرىء بها ، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء ، إذ لولاها لما جازت الإمالة ، وهذا بتمامه مذكور في النحو. وقرأ الجمهور : غشاوة بكسر الغين ورفع التاء ، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين : إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية ، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث ، والاسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه ، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد ، وهو منعهم من الإيمان ، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة ، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر ، أي بغشاوة ، وهو ضعيف. ويحتمل عندي أن تكون اسما وضع موضع مصدر من معنى ختم ، لأن معنى ختم غشي وستر ، كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد ، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة. وقال أبو علي : وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به ، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب :
متقلدا سيفا ورمحا
__________________
(١) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٣.