ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل ، وحرّم ما حرّم ، ثم اتبع بذكر من أخذ مالا من غير وجهه ، وأنه ما يأكل في بطنه إلّا النار ، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال ، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ يذكر تحريم الدماء ، ويستدعي حفظها وصونها ، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها ، ونبه على جواز أخذ مال بسببها ، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه ، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول ، لأن به قوام البنية ، وحفظ صورة الإنسان.
ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة ، لأن من كان مؤمنا يندر منه وقوع القتل ، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك ، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم ، ونبه أيضا على أنه ، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر ، فليس ذلك مخرجا له عن البر ، ولا عن الإيمان ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).
وأصل الكتابة : الخط الذي يقرأ ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات ، أي : فرض وأثبت ، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه.
وقيل : هو على حقيقته ، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ ، وسبق به القضاء.
وقيل : معنى كتب : أمر ، كقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) (١) أي : التي أمرتم بدخولها.
وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل ، ومنه (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢) (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (٣) وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب ، و (فِي الْقَتْلى) في هنا للسببية ، أي : بسبب القتلى ، مثل : «دخلت امرأة النار في هرة». والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب ، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه ، أو يكون ذلك خطابا مع القاتل ، والتقدير ، يا أيها القاتلون ، كتب
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٢١.
(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.
(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٦.