إلّا من الحلال الخالص الذي ينور القلب ، ويزيده بصيرة ، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة ، فلذلك نهى عن أكل الحرام المضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه ، وتخلل أيضا بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي ، وسؤال العباد الله تعالى ، وقد جاء في الحديث : «إن من كان مطعمه حراما ، وملبسه حراما ، ومشربه حراما ، ثم سأل الله أنّى يستجاب له». فناسب أيضا النهي عن أكل المال الحرام.
ويجوز أن تكون المناسبة : أنه لما أوجب عليهم الصوم ، كما أوجبه على من كان من قبلهم ، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم ، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا ، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل ، كما قال تعالى : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (١) (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (٢) (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (٣) وأن يكونوا مخالفيهم قولا ، وفعلا ، وصوما ، وفطرا ، وكسبا ، واعتقادا ، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور : «خالفوا اليهود» وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض ، إذ نزل (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) (٤) لاعتزال اليهود ، بأن لا يؤاكلوهنّ ، ولا يناموا معهنّ في بيت. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «افعلوا كل شيء إلا النكاح». فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه.
والمفهوم من قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا) ، الأكل المعروف ، لأنه الحقيقة. وذكره دون سائر وجوه الاعتداء والاستيلاء ، لأنه أهم الحوائج ، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال. ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازا عبر به عن الأخذ والاستيلاء ، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين ، وإضافة الأموال إلى المخاطبين. والمعنى : ولا يأكل بعضكم مال بعض ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٥) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهيا ومنهيا عنه ، وآكلا ومأكولا منه ، فخلط الضمير لهذه الصلاحية ، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره ، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة ، بل هي من باب الإضافة بالملابسة. وأجاز قوم الإضافة للمالكين ، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب ، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم ، لقوله : تريدونها بينكم بالباطل.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٤.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٧٥.
(٣) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.
(٥) سورة النساء : ٤ / ٢٩.