الكتاب وتبعوا قبلته. واختلفوا في قوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم ، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك ، على نحو : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (١) ، ويكون إذ ذاك إخبارا عن المجموع ، من حيث هو مجموع ، لا حكم على الأفراد. وقال الأصم : بل المراد أن أحدا منهم لا يؤمن. وقد تقدم أن من قول الأصم : أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص ، فكأنه قال : كل فرد فرد من أولئك المختصين بالعناد ، المستمرّين على جحود الحق ، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك. وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية ، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه ، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون ، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه. قيل : واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق ، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته ، فلو اتبعوا قبلته ، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وعلمه جهلا ، وهو محال ، وما استلزم المحال فهو محال. وأضاف تعالى القبلة إليه ، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها. أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته ، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح ، ولا عن شبهة عرضت ، وإنما ذلك على سبيل العناد ، ومن نازع عنادا فلا يرجى منه انتزاع.
(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) : هذه جملة خبرية. قيل : ومعناها النهي ، أي لا تتبع قبلتهم ، ومعناها : الدوام على ما أنت عليه ، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر. وقيل : هي باقية على معنى الخبر ، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة ، فجاءت هذه الجملة رفعا لتجويز النسخ ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب ، فإنهم قالوا : يا محمد ، عد إلى قبلتنا ، ونؤمن بك ونتبعك ، مخادعة منهم ، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم ، أو بين بذلك حصول عصمته ، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم ، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة ، أي ما هم بتاركي باطلهم ، وما أنت بتارك حقك. وأفرد القبلة في قوله : قبلتهم ، وإن كانت مثناة ، إذ لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة ، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين ، فصار الاثنان واحدا من جهة البطلان ، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ ، لأن قبله (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين ، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله : (بِتابِعٍ) ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها ، لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله ، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم.
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٥.