قال الزمخشري : قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ، كلام وارد على سبيل الفرض ، والتقدير بمعنى : ولئن اتبعتهم مثلا بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر ، إنك إذا لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين ، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وإلهاب للثبات على الحق. انتهى كلامه. وقال في المنتخب : اختلفوا في هذا الخطاب. قال بعضهم : هو للرسول ، وقال بعضهم : هو للرسول وغيره. وقال بعضهم : هو لغير الرسول ، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب. أهواءهم : تقدّم أنه جمع هوى ، ولا يجمع على أهوية ، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه ، وقد يستعمل في الخير ، وأصله الميل والمحبة ، وجمع ، وإن كان أصله المصدر ، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها.
(مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) : أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله ، فأطلق اسم الأثر على المؤثر. سمى تلك الدلائل علما ، مبالغة وتعظيما وتنبيها على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم. وقد فسر العلم هنا بالحق ، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق. وقال مقاتل : العلم هنا : البيان ، وجاء في هذا المكان : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ) ، وقال قبل هذا : (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ) (١) ، وجاء في الرعد : (بَعْدِ ما جاءَكَ) (٢) ، فاختص موضعا بالذي ، وموضعين بما ، وهذا الموضع بمن. والذي نقوله في هذا : أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف ، لأن ما والذي موصولان ، فأيا منهما ذكرت ، كان فصيحا حسنا. وأما المجيء بمن ، فهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء ، وأما قوله : بعد ، فهو على معنى من ، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى ، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها. وقال بعضهم : في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي ، لأن الذي أخص ، وما أشد إبهاما ، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين ، الذي هو الإسلام ، المانع من ملتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ، لأنه علم بكل أصول الدين ، وخص بلفظ ما ، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين ، أحدهما القبلة ، والآخر الكتاب ، لأنه أشار إلى قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) (٣) ، قال :
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢٠.
(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٧.
(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣٦.