(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) (١). وتارة يراد به المستقبل ، كقوله تعالى (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ) (٢) وهذا معروف في حيث ، فلا يلزم ما ذكره.
وعلى تسليم أنه فعل ماض ، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحدا لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإفاضة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك ، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب ، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام ، أو على جنسهم الخاص.
وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس ، حين أمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها ، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتى بهم جميعا ، فيبيت بها ، فتوجه أبو بكر إلى عرفات ، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع ، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر : أين تجاوزنا إلى غيرنا؟ هذا موقف آبائك! فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أتى عرفات ، وبها أهل اليمن وربيعة. وهذا تأويل قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فوقف بها حتى غربت الشمس ، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام ، فوقف بها ، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.
وقراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناسي ، بالياء ، قراءة شاذة ، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم ، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى ، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليهالسلام ، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك ، أي : للوقوف بمزدلفة ، أو لا ، ويكون يراد به الجنس ، إذ الناسي يراد به التارك للشيء ، فكأن المعنى ، والله أعلم : أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من المزدلفة ، وأفاض من عرفات ، ويكون الناسي يراد به الجنس ، فيكون موافقا من حيث المعنى لقراءة الجمهور ، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا ، هم التاركون للوقوف بمزدلفة ، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج ، وهو إبراهيم عليهالسلام ، بخلاف قريش ، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة ، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.
قال ابن عطية : ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : الناس ، كالقاض والهاد ،
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٢.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٩ و ١٥٠.