وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها ، وجعل ذلك إتماما للنعمة في الحالين ، لأن استقبال الكعبة ثانيا أمر لا يزداد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة. كما أن إرسال محمد صلىاللهعليهوسلم هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين. فشبه إتمام تلك النعمة ، التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل. وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الذي يحجونه قديما وحديثا ويعظمونه.
(رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة. وكذلك جاء (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) (١) ، ويشعر هذا الامتنان بأنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولذلك أفرده فقال : (رَسُولاً مِنْهُمْ) (٢) ، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتاليا عليهم آيات الله ، ومزكيا لهم ، ومعلما لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون. وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصا ونسبا ومولدا ومنشأ ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله. وأتى ثانيا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد. وأضاف الآيات إليه تعالى ، لأنها كلامه سبحانه وتعالى ، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم. وأتى ثالثا بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق. وأتى رابعا بصفة تعليم الكتاب والحكمة ، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي صلىاللهعليهوسلم ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية. وأتى بهذه الصفات فعلا مضارعا ليدل بذلك على التجدد ، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائما. وأما الصفة الأولى ، وهي كونه منهم ، فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له. وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) (٣) بأشبع من هذا ، فلينظر هناك.
__________________
(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ٢.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.