القشيري ، عرف بابن دقيق العيد ؛ وسألني أن أكتب له فيها ، وكان سؤاله في قوله عليهالسلام : «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده».
(ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم. كقوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) (١) وهي استعارة في غاية الحسن ، إذ هي استعارة عين لعين ، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم. قال النابغة :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي |
|
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا |
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول الله له كان بعد تمام بعثه ، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه.
والتعقيب بالفاء في قوله : فانظر إلى آخره ، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه ، وتقدّم ذكر شيء من هذا ، إلّا إن كان وضع : ننشرها ، مكان : أنشرتها ، و : نكسوها ، مكان : كسوتها ، فيحتمل. وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق ، ولم ينسق نسق المفردات ، لأن كل واحد منها خارق عظيم ، ومعجز بالغ ، وبدأ أولا بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة ، لأن ذلك أبلغ ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد ، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل ، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه. كما قال صلىاللهعليهوسلم في ضالة الإبل : «معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها». ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب ، وبالنظر إلى الحمار ، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته ، وقال تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي فعلنا ذلك : ولما كان قوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كالمجمل ، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار ، فجاء النظر الثالث توضيحا للنظر الثاني ، من أي جهة ينظر إلى الحمار ، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئا فشيئا عند التركيب وكسوتها اللحم ، فليس نظرا مستقلا ، بل هو من تمام النظر الثاني ، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ).
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم ، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض ، وأن قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) إلخ هو مقدّم في اللفظ ، مؤخر في الرتبة.
__________________
(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.