وبنى لقوله : (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة ، وجاء بالياء. وأدنى ألا يرتابوا لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله في الكتابة والإشهاد ، فعنهما تنشأ أقربية انتفاء الريبة ، إذ ذلك هو الغاية في أن لا يقع ريبة ، وذلك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا ، فيثلج الصدر بما كتب ، وأشهد عليه.
و : ترتابوا ، بني افتعل من الريبة ، وتقدم تفسيرها في قوله (لا رَيْبَ فِيهِ) (١) قيل : والمعنى : أن لا ترتابوا بمن عليه الحق أن ينكر ، وقيل : أن لا ترتابوا بالشاهد أن يضل ، وقيل : في الشهادة ومبلغ الحق والأجل ، وقيل : المعنى أقرب لنفي الشك للشاهد والحاكم والمتعاملين ، وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك ولا لبس ولا نزاع.
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) في التجارة الحاضرة قولان : أحدهما : ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن ؛ والثاني : ما يجوزه المشتري من العروض المنقولة ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل : كالمطعوم ، بخلاف الأملاك. ولهذا قال السدي ، والضحاك : هذا فيما إذا كان يدا بيد تأخذه وتعطي. وفي معنى الإدارة ، قولان : أحدهما : يتناولونها من يد إلى يد. والثاني يتبايعونها في كل وقت ، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض ، وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة ، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها ، ولحقت بمبايعة الديون ، ولما كانت الكتابة في التجارة الحاضرة الدائرة بينهم شاقة ، رفع الجناح عنهم في تركها ، ولأن ما بيع نقدا يدا بيد لا يكاد يحتاج إلى كتابة ، إذ مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون ، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها ، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يدا بيد. وهذا الاستثناء في قوله : إلّا أن تكون ، منقطع لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة. وقيل : هو استثناء متصل ، وهو راجع إلى قوله (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) إلّا أن يكون الأجل قريبا. وهو المراد من التجارة الحاضرة. وقيل : هو متصل راجع إلى قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) وقرأ عاصم : تجارة حاضرة ، بنصبهما على أن كان ناقصة ، التقدير إلّا أن تكون هي أي التجارة. وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون : تكون ، تامة. و : تجارة ، فاعل بتكون ،
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢. وآل عمران : ٣ / ٩ و ٢٥ ؛ والنساء : ٤ / ٨٧ ؛ والأنعام : ٦ / ١٢ ، ويونس : ١٠ / ٣٧ ؛ والإسراء : ١٧ / ٩٩. والسجدة : ٣٢ / ٢. والشورى : ٤٢ / ٧. والجاثية : ٤٥ / ٢٦.