ومن أكبر فوائد إخبار الحقّ ورسله والكمّل من خاصّته (١) عن أحكام القدر تنبيه النفوس والهمم وتشويقها للتحلّي (٢) بعلم القدر أو التحقّق بالإيمان به بعد الإيمان بما ذكرنا ، كقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٣) وكقوله عليهالسلام : «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب» (٤) وكقوله : «لا يستكمل إيمان عبد مسلم حتى يكون فيما في يد الله أوثق منه ممّا في أيدي (٥) الناس» (٦) ، وفي الحديث الآخر الصحيح أيضا : «حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» (٧) و «حتى يخاف الله في مزاحه (٨) وجدّه» ونحو هذا في هذا المعنى وغيره ممّا يطول ذكره ويجرّب العبد بميزانه عليهالسلام وميزان ربّه إيمانه ، فيعلم ما حصّل وما بقي عليه ولم يحصّله.
ثم الصراط المستقيم العدل الوسط بعد التحقّق بالتوبة المقبولة المنبّه على حكمها هو الثبات على العمل الصالح بصفة الإخلاص الذي هو شأن أهل الإنابة ، ثم الترقّي بالعمل الصالح في الدرجات العلى كما قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٩) يعني الأرواح الطاهرة (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١٠) فلا يزال الإنسان ـ مع إيمانه وتوبته وملازمته الأعمال الصالحة ـ يتحرّى الأسدّ فالأسدّ ، والأولى فالأولى من كلام (١١) وعمل ، فيتّقي ويرتقي من حقّ الإيمان إلى حقيقته ، كما نبّه الرسول صلىاللهعليهوآله على ذلك الحارثة وقد سأله : كيف أصبحت يا حارثة؟ قال : أصبحت مؤمنا حقّا فقال : «إنّ لكلّ حقّ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت نفسي عن (١٢) الدنيا فتساوى عندي ذهبها وحجرها ونحو ذلك ، ثم قال : وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزا وكأنّ أهل الجنّة في الجنّة ينعّمون وأهل النار في النار يعذّبون ،
__________________
(١) ق : خاصيته.
(٢) ق : للتجلّي.
(٣) الحديد (٥٧) الآية ٢٢.
(٤) جامع المسانيد ، ج ١٣ ، ص ٨٩.
(٥) ه : أيد.
(٦) جامع المسانيد ، ج ١٤ ، ص ٥٤١.
(٧) طبقات الشافعية ، ج ٤ ، ص ١٣٤.
(٨) ق : مزاجه.
(٩ و ١٠). فاطر (٣٥) الآية ١٠.
(١١). ق : كلّ أمر.
(١٢). عزفت نفسه «عن الشيء : زهدت فيه» وملّته. وعزف نفسه عن الشيء : منعها عنه ؛ فيمكن قراءة «عزفت» بصيغة التكلّم أيضا : وفي ق لا توجد.