الشريعة أيضا بذلك في قصّة (١) أبي بكر لما نهى صهيبا وبلالا وسلمان وبقية الستّة عن الوقوع في أبي سفيان لمّا مرّ بهم وقالوا له : بعد ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله ، فقال لهم أبو بكر : تقولون هذا لشيخ قريش وكبيرها؟ أو نحو ذلك ، فلمّا بلغ ذلك الخبر إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله (٢) قال : «لعلّك أغضبتهم يا أبا بكر ، إن أغضبتهم أغضبت ربّك» فرجع إليهم وقال : استغفروا لي يا إخوتي ، فقالوا : غفر الله لك [يا أخي. فقال : أغضبتكم؟ فقالوا : لا ، يا أخي] (٣) و (٤).
فافهم أنّ ثمّة من يغضب الحقّ لغضبه ، ويرضى لرضاه ، بل ثمّة من نفس غضبه هو غضب الحقّ ، وعين رضاه رضا الحق.
وغضب الخلق حالة ناتجة عن أثر طبيعي وفعل غير موافق لمزاج الغاضب ومراده ، وهكذا حكم أهل الله مع باقي الصفات ليس حالهم معها حال الجمهور ، ولا نسبتها إليهم نسبتها إلى سواهم ، وبين صفات الرحمة وصفات الغضب بالنسبة إلى الحقّ وإلى الكمّل ومن دونهم فروق دقيقة لا يعرفها إلّا من عرف سرّ أحديّة الفعل والفاعل ، وسرّ سبق الرحمة وسببها وما الغضب المسبوق المغلوب. وسألمع لك بنبذة من أسراره تحت أستار الأمثلة والعبارات ، فارصد فهمك ، واجمع همّك ، تعثر على المقصودات (٥) ـ إن شاء الله ـ
اعلم ، أنّ باطن الغضب رحمة متعلّقها الغضب والمغضوب عليه ، فأمّا الغضب فإنّه ينفث بغضبه وإمضاء حكمه في المغضوب عليه ما يجده من الضيق بسبب عدم ظهور سلطنة (٦) نفسه تماما ، التي بها نعيمه ، (٧) وفيها لذّاته وذلك التعذّر إمّا لوجدان المنازع ، أو اعتياص (٨) الأمر المتوقّع منه أن يكون محلّا لنفوذ الاقتدار تماما ، أو آلة مؤاتية (٩) لما يراد من التصرّف بها وفيها (١٠) عن حسّ المؤاتاة ، وعن تنفيذ الأوامر بها أيضا وفيها.
ولنفس الغضب مثلا موازين وسنن مع القدرة على حزمها لا يمكن أن تحزم ؛ إذ لو حزمت لنيل مراد جزئي أو تكميل أمر خاصّ غير الأمر المراد لعينه دون غيره ، استلزم ذلك
__________________
(١) ق : قضية.
(٢) ق : رسول الله.
(٣) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.
(٤) جامع المسانيد ، ج ٧ ، ص ٥٩.
(٥) ق : المقصد.
(٦) ق : سلطنته.
(٧) ه : نعيمة.
(٨) ق : الاعتياض.
(٩) ق : متواتيه.
(١٠) ق : منها.