البينونة بينه وبين غيره من الذوات بهذا الذي قد ذكرتموه ، لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره.
وبعد : فإن المراد بالأبصار المبصرون ، إلا أنه تعالى علق الإدراك بما هو آلة فيه وعنى به الجملة ، ألا ترى أنهم يقولون : مشت رجلي ، وكتبت يدي ، وسمعت أذني ، ويريدون الجملة ، وعلى هذا المثل السائر ، يداك أوكتا وفوك نفخ.
ثم إن لتعليق الشيء بما هو آلة فيه فائدة ظاهرة ، لا تحصل تلك الفائدة إذا علقت بالجملة. بيان ذلك ، أن أحدنا إذا قال كتبت ، يحتمل أن يكون قد كتبه بنفسه ، ويحتمل أن يكون قد استكتب غيره ، وليس كذلك كتبت بيدي ، ومشيت رجلي ، فإنه لا يحتمل ذلك.
وبعد : فإن هذا تفسير بخلاف تأويل المفسرين ، فإن المفسرين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا ، على أن المراد بالإبصار المبصرون ، إلا أنهم اختلفوا ، فمن قائل إنه لا يدركه المبصرون في دار الدنيا ، ومن قائل لا يدركه المبصرون في حال من الأحوال ، وكل تأويل بخلاف تأويل المفسرين فهو كفتوى يكون بخلاف فتوى المفتين.
فإن قيل : لو كان المراد بقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، المبصرون ، لوجب مثله في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أن يكون المبصرين ، ليكون النفي مطابقا للإثبات ، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه لأنه من المبصرين ، وكل من قال إنه تعالى يرى نفسه قال إنه يراه غيره.
قيل له : إنه تعالى وإن كان مبصرا ، فإنما يرى ما تصح رؤيته ، ونفسه يستحيل أن ترى ، لما قد بينا أنه يمدح بنفي الرؤية مدحا يرجع إلى ذاته ، وما كان نفيه نفيا راجعا إلى ذاته فإن إثباته نقصا ، والنقص لا يجوز على الله تعالى.
وبعد : فإن المراد بقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) المبصرون بالأبصار ، فكذلك في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، فيجب أن يكون هذا هو المراد ليكون النفي مطابقا للإثبات ، والله تعالى ليس من المبصرون بالأبصار ، فلا يلزم ما ذكرتموه.
وبعد : فلا يجوز من الله تعالى أن يجمع بينه وبين غيره في الخطاب ، بل يجب أن يفرد بالذكر تأديبا لنا وتعليما للتعظيم. وعلى هذا فإن أمير المؤمنين عليهالسلام لما سمع خطيبا يقول من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، قال ليس خطيب القوم أنت ، هلا قلت ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى. فنهى عن الجمع بين