إذ ثبت هذا ، فالواجب أن ننظر في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع إلى الفعل لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى ، وليس يجب في الشيء إذا لم يرى أن يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور كالمعدومات وككثير من الأعراض ، والشيء إذا لم يرى فإنما يرى لما هو عليه في ذاته ، لا لأنه يفعل أمرا من الأمور ، وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى ذاته على ما نقوله.
فإن قيل : ولم قلتم : إن ما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، قيل له : لأنه لو لم يكن إثباته نقصا لم يكن نفيه مدحا ، ألا ترى أن نفي السنة والنوم لما كان مدحا كان إثباته نقصا ، حتى لو قال أحدنا : إنه تعالى ينام ، كان هذا أيضا نقصا.
وبعد ، فإنه تعالى إذا لم يرى فإنما لم يرى لما هو عليه في ذاته ، فلو رئي وجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته ، فكان نقصا.
فإن قيل : وأي نقص في أن يرى القديم تعالى ، وما وجه النقص فيه؟ قلنا : لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلا ، بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا راجعا إلى ذاته ، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحا يرجع إلى الذات كان إثباته نقصا ، كفى. فإذا أردت التفصيل فلأن فيه انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته.
فإن قيل : وما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] أي لا تحيط به الأبصار؟ ونحن هكذا نقول : قلنا : الإحاطة ليس هو بمعنى الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ، ألا ترى أنهم يقولون السور أحاط بالمدينة ، ولا يقولون : أدركها أو أدرك بها ، وكذلك يقولون : عين الميت أحاطت بالكافور ولا يقولون أدركته. وبعد ، فإن هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين ، فلا يقبل. على أنه كما لا تحيط به الأبصار فكذلك لا يحيط هو بالأبصار ، لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.
فإن قيل : لا تعلق لكم بالظاهر ، لأن الذي يقتضيه الظاهر هو أن الأبصار لا تراه ، ونحن كذلك نقول. قيل له : إنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه ، فلا بد من أن يحمل على وجه يقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التمدح. ولا تقع البينونة بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التمدح. ولا تقع