فهمُ المعنى الثاني من الأول بعيداً عن الفهم عُرفا (١). كما في قول عبّاس بن الأحنَف.
سأصلبُ بُعد الدار عنكم لتقرُبوا |
|
وتسكبُ عيناي الدُّموع لتجمُدا (٢) |
جعلَ سكبَ الدُموع كناية عمّا يلزم في فراق الأحبَّة من الحزن والكمد : فأحسن وأصابَ في ذلك ، ولكنَّه أخطأ في جعل جمود العين كنايةً عمَّا يوجبه التَّلاقى من الفرح والسُرُور بقُرب أحبتّه ، وهو خفىّ وبعيدٌ (٣) إذ لم يعرف في كلام العرب عند الدُّعاء لشخص بالسرور (أن يقال له جُمدت عينك) أو لا زالت عينك جامدةً ، بل المعروف عندهم أنّ جمود العين إنّما يكنى به عن عدم البكاء حالة الحزن ، كما في قول الخنساء.
أعيني جودا ولا تجمُدا |
|
ألا تبكيانِ لصَخر النَّدى |
وكما في قول أبي عطاء يرثى ابن هُبيرة :
__________________
(١) فالمناط في الصعوبة عدم الجريان على ما يتعاطاه أهل الذوق السليم ، لا كثرة الوسائط الحسية ، فانها قد تكثر من غير صعوبة ، كما في قولهم : فلان كثير الرماد كناية عن المضياف فان الوسائط كثيرة فيه ولكن لا تعقيد ..
(٢) تسكب بالرفع عطف على أطلب ، وبالنصب عطف على بعد : من قبيل عطف الفعل على اسم خالص من التأويل بالفعل ، والمراد طلب استمرار السكب : لا أصله لئلا يلزم تحصيل الحاصل.
(٣) ووجه الخفاء والبعد : أن أصل معنى جمود العين جفافها من الدموع عند إرادتها منها ، والانتقال منه إلى حصول السرور بعيد ، لأنه يحتاج إلى وسائط بأن ينتقل من جمود العين إلى انتفاء الدمع منها ، حال إرادة البكاء ، ومنه إلى انتفاء الدمع مطلقاً ، ومنه إلى انتفاء الحزن ونحوه «فان ذلك هو السبب غالبا في الدمع» ومن انتفاء الحزن ونحوه إلى السرور ولا يخفى أن الشاعر قد طوى وحذف جميع هذه الوسائط فأورث بطء الانتقال من المعنى الأصلي الحقيقي إلى المعنى المراد وخالف حينئذ أسلوب البلغاء ، فنشأ من ذلك التعقيد المعنوي واعلم أن الشاعر أراد أن يرضى بالبعد والفراق ، ويعود نفسه على مقاساة الأحزان والأشواق ، ويتحمل من أجلها حزنا يفيض من عينيه الدموع ، ليتوصل بذلك إلى وصل يدوم ، ومسرة لا تزول على حد قول الشاعر :
ولطالما اخترت الفراق مغالطا |
|
واحتلت في استثمار غرس ودادي |
ورغبت عن ذكر الوصال لأنها |
|
تبنى الأمور على خلاف مرادي |