ثم فى قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وفى قوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، وفى قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وفى نحو هذه الآيات دلالة تأخر البيان ، حيث لم يبين ما الأقراء؟ ، ولم يبين الاعتزال من أى موضع ، ومن أى مكان؟ ، ولم يبين المخالطة فى ما ذا ، وفى أى شىء؟ فالاختلاف فيه باق إلى يوم التناد ؛ فبطل قول من ينكر تأخر البيان ، وثبت قول من أقر به. وبالله التوفيق.
وقوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ففى الآية دلائل :
أحدها : أن ذكر حرمة الكتمان فيمن آمن ليس بشرط فيه دون غيره ؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن ، إذ هو غير مستحسن فى العقل. ففيه الدليل على أن الحكم الموجب لعلة يجوز لزومه فيما ارتفعت عنه تلك العلة وعدمت وهو كقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] ، وقد يلزم (إصلاح ذات البين) فى غير الإيمان ، وكذا قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨] ، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد ، وقد يجوز ذلك للمسلم فى غير داره ؛ فدل أن الحكم إذا ذكر لعلة (١) فى أحد لا يمنع لزوم ذلك فى غير المذكور.
قال الشيخ ـ رحمهالله تعالى ـ : فيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه. وفيه دليل ألا يحل ذلك لمن قد آمن فى الخلق ؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق ، وفى الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط. والله أعلم.
ثم اختلف فى قوله : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ).
قال بعضهم : الحبل والحيض. وكذلك روى عن على وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس (٢) ، رضى الله تعالى عنهم ، أنهم قالوا : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) : الحبل والحيض ؛ فثبت أن موضع الحيض الرحم. ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم ؛ فبان أن الحامل لا تحيض. وعلى ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنما ذلك دم عرق انقطع» (٣). وهو الأمر الظاهر المتعارف فى النساء أن الحبل يحبس الدم.
وقال بعض أهل التأويل : (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) : الحبل خاصة دون الحيض ؛ لوجهين :
__________________
(١) فى ط : العلة.
(٢) أخرجه ابن أبى شيبة فى المصنف (١٩١٠٣).
(٣) أخرجه الدارقطنى (١ / ٢١٦) ، والبيهقى (١ / ٣٥٤) عن عائشة بنحوه.