وقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، أى : لا أحد يجترئ على الشفاعة إلا بإذنه.
ثم اختلف فى الشفاعة :
قالت المعتزلة : لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم ، أو كان لهم ذنب فتابوا عنه. ذهبوا فى ذلك إلى ما ذكر الله تعالى فى قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧] ، أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا. فإذا كان الاستغفار فى الدنيا إنما يكون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا ، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون فى الآخرة لهؤلاء.
وأما عندنا : فإن الشفاعة تكون لأهل الذنوب ؛ لأن من لا ذنب له لا حاجة له إلى الشفاعة. وقوله : (لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ، يكون لهم ذنوب فى أحوال التوبة ، فإنما يغفر لهم الذنوب التى كانت لهم ، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب ؛ فعلى ذلك الشفاعة.
فإن قيل : أرأيت رجلا قال لعبده : إن عملت عملا تستوجب به الشفاعة فأنت حر ، فأى عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده : الطاعة ، أو المعصية؟ قيل : الطاعة ، فعلى ذلك الشفاعة ، لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية.
[قيل : إن الشفاعة التى يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون بالطاعات التى كانت لهم حالة الشفاعة ؛ لأن أهل الإيمان وإن ارتكبوا مآثم ومعاصى فإن لهم طاعات ، فبتلك الطاعات يستوجبون الشفاعة ، كقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] ، فالشفاعة فى شره بخيره](١).
وقالوا : لا شفاعة فى الشاهد لأحد فى الآخرة ؛ لأن الشفاعة هى أن يذكر عن مناقب أحد عند أحد وخيراته ، ليس سواء (٢) ، وكذا فى الآخرة.
والجواب لهم من وجهين :
أحدهما : أنه إنما يذكر فى الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله ، فيذكر خيراته ليعرفه بها ، فيشفع فيه. والله تعالى عارف لا يتعرف (٣).
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.
(٢) فى أ : سواء.
(٣) أخرجه ابن جرير (٥٧٨٨ ، ٥٧٨٩) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم ، والبيهقى فى الأسماء والصفات كما فى الدر المنثور (١ / ٥٨٠).