ومن حاد عنه غوى.
وقيل : فى الأصل الحكمة فى التحقيق وضع كل شىء موضعه ، ودفع كل حق إلى مستحقه [ولهذا قال بعض الفلاسفة فى حد الحكمة : إنه العلم والعمل بالعلم فى وضع الأشياء مواضعها ، والعمل فى إيصال كل ذى حق إلى مستحقه](١).
وقيل : هى من إحكام الأمور وإتقانها. وذلك مقارب ؛ لما يضاد الحكمة السفه ، وهو التفاوت فى العقل والاضطراب فى الأمور. والله أعلم.
وقال قوم : الحكمة فى القرآن : هى فهم الحدود والسرائر ، وهو الذى به يدرك الموافقة والمخالفة من طريق الحقائق ، لا من طريق الظواهر. وذلك عمل الحكماء ورعاة الدين. ولا قوة إلا بالله.
وقال قوم : الحكمة : هى الفقه ، والفقه : معرفة الشىء بمعناه الدال على نظيره ، وهو الذى به يوصل إلى معرفة الغائب بالشاهد ، والغامض بالظاهر ، والفرع بالأصل. ولا قوة إلا بالله.
وأى هذه الوجوه كانت الحكمة فذلك الوجه يجمع (٢) خير الدارين ، لو حفظ حقه ، والذى هذا وصفه فهو الخير الكثير. وبالله المعونة.
وفى الآية دلالة أن الله تعالى لا يؤتى كلّا الحكمة ، وأن الحكمة وإن كانت فعلا للحكيم فبعطاء الله تعالى نالها ، وأنه لا يجوز أن يعطيها أحدا ثم لا ينالها المعطى. وهذه الوجوه كلها تخالف رأى المعتزلة.
وقوله تعالى : (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ، من حفظ النفس فى الدنيا عن جميع الآفات ، وفى الآخرة عن دفع العقوبات.
وقوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يعنى : وما يتعظ بما ذكر إلا ذو الفهم والعقل.
وفى الآية نقض على المعتزلة ؛ لأنه قال : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ، ثم قال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ، ولا كل أحد يؤتى الحكمة ، إنما يؤتى بعضا دون بعض. فلو كان على الله تعالى أن يعطى الأصلح فى الدين لكان قد آتى الكل ، وبطل التفضل. ومن قال : يؤتى غيرها ، فكان خلاف ما فى الكتاب.
وقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.
(٢) فى أ : بجميع.