أي : موافقا لما قبله من الكتب السماوية ، وهي غير مختلفة ولا متفاوتة ، وفيه دلالة نبوة [سيدنا](١) محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها ، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف ؛ فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من الله ، وأن محمدا رسوله ، لكنهم كابروا وعاندوا (٢).
وقوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).
من بعد.
وقال بعضهم : (هُدىً لِلنَّاسِ).
أي : بيانا لهم ، وحجّة لمن اهتدى ، وحجة على من عمي (٣) ؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى ، وعليه حجة فيه الهلاك ؛ إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى ، وعليه إن ترك الاهتداء (٤) ؛ فبان أنه يخالف ما يقوله المعتزلة. (٥)
__________________
(١) سقط من ب.
(٢) قال العلامة القاسمي : قال أبو مسلم : المراد منه أنه ـ تعالى ـ لم يبعث نبيّا قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كلّ زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كلّ ذلك. ينظر : محاسن التأويل (٤ / ٥).
(٣) قاله الطبري في تفسيره (٦ / ١٦١).
(٤) قال ابن فورك : التقدير : هدى للناس المتقين ، دليله ما في سورة البقرة : (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، فرد هذا العام إلى ذلك الخاص.
ينظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٤ / ٦).
(٥) إن أبا الحسن الأشعري ، وأكثر الأئمة من أصحابه حملوا التوفيق على خلق القدرة على الطاعة.
وقال إمام الحرمين : التوفيق : خلق الطاعة لا خلق القدرة. وحمل الأشعري وأكثر الأئمة من أصحابه الهداية على معناه الحقيقي ؛ أعني : خلق الاهتداء وهو الإيمان ومقابله الإضلال وهو بمعنى خلق الضلالة. وفي شرح العقائد : نعم قد تضاف الهداية إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مجازا بطريق التسبب كما يسند الإضلال إلى الشيطان مجازا ومثل هداه الله فلم يهتد مجازا عن الدلالة والدعوة إلى الاهتداء انتهى.
والمعتزلة أوّلوا التوفيق والهداية بالدعوة إلى الإيمان والطاعة واستدلوا بقوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] إذ لا شبهة في امتناع حمله عن خلق الهدى فيهم ، ولعل الجواب أن الهداية في هذه الآية مجاز عن الدلالة والدعوة إلى الاهتداء ، واستدلت الأشاعرة على بطلان تأويل المعتزلة بأن الأمة اجتمعت على أن الناس مختلفون في التوفيق والهداية فبعضهم موفق ومهدى ، وبعضهم ليس كذلك ، فلو أول التوفيق والهداية بالدعوة إلى الإيمان والطاعة كما قال به المعتزلة لاستوى جميع الناس فيهما ؛ أي في التوفيق والهداية ؛ لأن معنى الموفق والمهدى على هذا التأويل المدعو إلى الإيمان والطاعة. ثم اعلم أن المعتزلة يؤولون الإضلال المسند إليه ـ تعالى ـ بوجدان العبد ضالا أو بتسميته ضالا للعلة المذكورة في تأويلهم الختم والطبع.
ينظر : نشر الطوالع (٢٨٨ ـ ٢٩٠).