وقوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا)
فيه : فإن قال قائل : ما في فئة (١) قليلة ، وهي فئة أهل الإسلام ، في غلبة فئة كثيرة ، وهي فئة المشركين ؛ حيث غلبت فئة المسلمين ـ وهم قليل ـ فئة المشركين ـ وهم كثير ـ يوم بدر (٢) ، وقد يكون لأهل الكفر إذا كانوا قليلا (٣) ، فغلبوا على أهل الإسلام ـ آية.
قيل : ليست الآية في الغلبة خاصّة ؛ لكن الآية فيها [والله أعلم](٤) وفي غيرها من وجوه :
أحدها : أن غلبة المسلمين ، مع ضعف أبدانهم ، وقلة عددهم ، وخروجهم لا على وجه الحرب والقتال ـ المشركين مع قوة أبدانهم ، وكثرة عددهم ، واستعدادهم للحرب ، وخروجهم على ذلك ، والقتال ـ آية ، وعلم العدو أن ليس لهم فئة ، ولا لهم رجاء المدد ، وأن لا غياث لهم من البشر ، وذلك آية الجرأة وعلامة الشجاعة ، ومعه آمن ، والله أعلم.
والثاني : [أن](٥) ما روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخذ كفا من تراب ، فرماه على وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه» (٦) ؛ فامتلأت أعينهم من ذلك وعموا ؛ حتى انهزموا ؛ فصار آية.
والثالث : ما قيل : إن أبا جهل قام فدعا فقال : «أيّنا أحقّ دينا ، وأوصل رحما ؛
__________________
(١) الفئة : الجماعة من الناس ، وقيدها بعضهم بالمتظاهرة ، وبعضهم بالمتعاضدة.
قال السمين الحلبي : وهما متقاربتان. قال الراغب : الفئة : الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضها إلى بعض في التعاضد.
ينظر : عمدة الحفاظ (٣ / ٢٢٩) ، المفردات للراغب الأصفهاني (ص ٣٨٩).
(٢) بدر : قرية مشهورة على نحو أربعة مراحل من المدينة الشريفة ، قيل : نسبت إلى بدر بن مخلّد بن النضر بن كنانة ، وقيل : إلى بدر بن الحارث ، وقيل : إلى بدر بن كلدة. وقيل : بدر : اسم البئر التي بها ؛ سمّيت بذلك لاستدارتها أو لصفائها فكان البدر يرى فيها ، وأنكر ذلك غير واحد من شيوخ بني غفار وقالوا : هي ماؤنا ، ومنازلنا وما ملكها أحد قطّ يقال له بدر ، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قال الإمام البغويّ : وهذا قول الأكثر.
ينظر : سبل الهدى والرشاد للصالحي (٤ / ١٢٠) ، مراصد الاطلاع لصفي الدين البغدادي (١ / ١٧٠ ـ ١٧١).
(٣) في ب : قليل.
(٤) سقط من ب.
(٥) سقط من ب.
(٦) أخرجه الطبراني في الكبير (٣ / ٢٢٧) رقم (٣١٢٨) عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخذ كفّا من الحصباء فاستقبلنا به فرمانا بها ، وقال : «شاهت الوجوه» فانهزمنا ، فأنزل الله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧]. وإسناده حسن ، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (٦ / ٨٤).