أيضا ـ تقع لوجهين :
تزين في الطباع ، والطبع يرغب فيما يتلذذ ويشتهي ، وإن لم يكن في نفسه حسنا.
وتزين في العقل ، فلا يتزين في العقل إلا فيما ثبت حسنه بنفسه ، أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك ، ثم جعل العقل مانعا له ، رادّا عما يرغب إليه الطبع ويميل ؛ لأن الطبع أبدا يميل [ويرغب](١) إلى ما هو ألذّ وأشهى وأخف عليه ، وينفر عما يضره ويؤلمه. والعقل لا ينفر إلا عما هو القبيح في نفسه ، ويرغب فيما هو الحسن في نفسه ؛ وعلى ذلك يخرج قوله صلىاللهعليهوسلم : «حفّت الجنّة بالمكاره ، والنّار بالشّهوات» (٢) : ليس على كراهة العقل ، ولا على شهوة العقل ؛ ولكن على كراهة الطبع وشهوته ؛ وكذلك قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] : ليس على كراهة الاختيار ، ولكن كراهة الطبع ؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار ، وكذلك رغبة العقول رغبة الاختيار ، وفيها تجري الكلفة (٣) ـ أعني : على اختيار العقل ، لا اختيار الطبع ـ بما يميل ويرغب في الألذّ ، وينفر عن الضارّ ؛ دليله قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] أخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجا ؛ فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما يكون على اختيار العقل وكراهيته ، لا على اختيار الطبع ؛ لذلك قلنا : إنه يجوز التزيين في الطبع من الله تعالى ، وكذلك الكراهة في الطبع تكره (٤) من الله تعالى (٥).
فأمّا قولهم (٦) : إن الشيطان هو الذي زينها : فإن عنوا أنه يزينها لهم ، أي : يرغبهم
__________________
(١) سقط من ب.
(٢) أخرجه أحمد (٣ / ٢٥٤) ، وعبد بن حميد (١١١٣) ، ومسلم في صحيحه (٤ / ٢١٧٤) : كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (١ ـ ٢٨٢٢) ، والترمذي (٤ / ٣١٩) أبواب صفة الجنة : باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، (٢٥٥٩) ، وابن حبان في صحيحه رقم (٧١٦ ـ الإحسان) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حفّت الجنة بالمكاره ، وحفّت النار بالشهوات».
وأخرجه أحمد (٢ / ٢٦٠) ، والبخاري في صحيحه (١٣ / ١١٦) : كتاب الرقاق : باب حجبت النار بالشهوات ، (٦٤٨٧) ، ومسلم في الموضع السابق ، وابن حبان (٧١٩) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به مرفوعا. وعند البخاري «حجبت» مكان «حفت».
(٣) أي : التكاليف ، وهي : إلزام ما فيه كلفة أو توجه الخطاب بالأمر والنهي على المخاطب. انظر : أصول الدين لعبد القاهر البغدادي (٢٠٧).
(٤) في ب : مكره.
(٥) في ب : عزوجل.
(٦) في ب : وقولهم.