بعد علمهم بصلاحهم ، أو على الوصف به كالوصف بالصدّيق ، وإن كان كل نبي كذلك ؛ مع ما لعل لذلك حد عند الله ؛ لذلك (١) أراد لم يكن أطلع غيره عليه ، والله أعلم.
وجائز أن يكون «يحيى» بما حيى به الأخلاق المحمودة ، والأفعال المرضية ؛ ولذلك سمى سيدا ؛ وجملته أن لله أن يسمي من شاء بما شاء ، وليس لنا تكلف طلب المعنى ، فيما سمى الله الجواهر به ؛ إذ الأسماء للتعريف ، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل ، والله أعلم.
وقوله : وروح الله وكلمته ـ كقوله : خليل الله وحبيبه ، وذبيح الله ، وكليم الله ، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة ، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة ، وذلك على ما قيل : من بيوت الله ، وعلى ما قيل لدينه : نور الله ، وقيل لفرائضه : حدود الله ، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه ؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله ، وذلك كما قال لمحمّد صلىاللهعليهوسلم : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] ، وقال في الجملة : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] لا على ما توهمته النصارى في المسيح (٢) ، فمثله الأول ، ولا قوة إلا بالله.
وقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)(٣) :
بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا.
وفيه وجه آخر : وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار ؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل (٤) ؛ ليعلم أن قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] إلى آخره : إنما هو حقيقة الخضوع لله ، والإنباء عنه ، لا على خلقه ؛ كنطق الجوارح في الآخرة ، والله أعلم.
أو لتكون آية له دائمة ؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر : من التغيير ، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء ، نحو العصا فيما تعود إلى حالها ، واليد ، ونحو ذلك ؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام ، ولا قوة إلا بالله.
__________________
(١) في ب : ذلك.
(٢) سيأتى الكلام على مذاهب النصارى في طبيعة المسيح بأوسع من هذا في سورة المائدة ، عند قول الله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٢].
(٣) لا أدري ما المناسبة في ذكره هذه الآية هنا ، والكلام ما زال متصلا عن يحيى وزكريا ـ عليهماالسلام ـ وهذه الآية عن عيسى بن مريم؟! وسيذكر المصنف هذه الآية في موضعها ، وإن كان كلامه هناك أخصر مما هنا.
(٤) الكهل : الرجل إذا وخطه الشيب ، ومن الرجال : الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب.
ينظر : اللسان (٥ / ٣٩٤٧) (كهل).