فلما رأوا ذلك من عيسى ـ عليهالسلام ـ ظنوا أنه ربّ ؛ لما لم يروا ذلك من غيره ، ولو كانوا عرفوا الله حق المعرفة ، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله ، ويكون مثله من كل أحد ؛ وإنما الإحياء كان من الله ـ عزوجل ـ أجراه على يدي عيسى ـ عليهالسلام ـ وأظهره ، وإنما كان من عيسى تصويره فقط ؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الله ـ عزوجل ـ أجراه على يديه آيات لنبوته ؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين : لكونه من غير أب ، ولآياته.
ثم قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ـ يحتمل وجهين ـ والله أعلم ـ : أحدهما : أن الله ـ عزوجل ـ صور صورة آدم من طين ، ثم جعل فيه الروح ، لم يجز أن يقال صار آدم حيّا من نفسه ؛ لوجود صورته ، كيف جاز لكم أن تقولوا : إن عيسى لمّا صوّر ذلك الطير من الطين ، صار محييا له بتصويره إياه دون إحياء الله ـ تعالى ـ إياه؟! والله أعلم.
والثاني : أن آدم ـ عليهالسلام (١) ـ خلق لا من أب وأم ، ثم لم تقولوا : إنه رب
__________________
ـ قدرة واختيارا ، فإذا لم يوجد مانع أوجد فعله المقدور مقرونا لهذه القدرة والاختيار. ويزيد رأي الأشاعرة تفسيرا قول أبي الحسن الأشعرى : «الكسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد» ، ويفهم من عبارة الأشعري أن الله ـ عزوجل ـ يعطى الإنسان القدرة على إحداث الفعل عند مباشرته ، فيقع الفعل عند هذه القدرة وليس بها.
أما الماتريدية : فيتفقون مع الأشاعرة في أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله ـ عزوجل ـ وللعباد فيها الكسب ، لكنهم يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب : فيرى الماتريدية : إثبات أن للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل ، لكن لا أثر لها في الإيجاد والإحداث ، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية ، فهذه القدرة متمثلة في القصد والاختيار للفعل ، وعلى أساس هذا القصد وذلك الاختيار يخلق الله للعبد القدرة على الفعل ، وعليه تكون نتيجة الفعل.
وبهذا يتضح أن الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة في قدرة العباد التي وقع بها الفعل ، فهي غير مخلوقة عند الأشاعرة ، بينما يرى الماتريدية أن للعبد اختيارا في أفعاله ، ولم يمنعوا أن تضاف الأفعال إلى الله تعالى.
وتنظر هذه المسألة وتفصيلاتها وأدلة كل فريق وبيان الحق فيها مع أهل السنة والجماعة في : سبيل الحكمة والرشاد في بيان من له الانفراد بخلق أفعال العباد ، لعبد الرحمن مصطفي (٢) ، المغني للقاضى عبد الجبار (٨ / ٢١٨ ، ٢١٩) ، وشرح الأصول الخمسة (٣٢٤) ، والملل والنحل للشهرستاني (١١٤) ، والفصل لابن حزم (٣ / ١٨ ـ ٢٠) ، والفرق بين الفرق (٢١١) ، وشرح المواقف للجرجاني (٨ / ١٤٥) ، وشرح البيجوري على الجوهرة (٣٢) ، والأشعري لحمودة غرابة (١٠٨) ، واللمع للأشعري (٩٧) ، ونهاية الإقدام للشهرستاني (٨٧) ، والتفسير الكبير (١٣ / ١٢٧ ، ١٢٨) ، وأبي منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (٤٣٢ ـ ٤٣٤) ، والتوحيد للماتريدي (٢٤٢ ، ٢٤٣) ، وبحر الكلام لأبي المعين النسفي (٤٠).
(١) في ب : صلىاللهعليهوسلم.