والثاني : أن يكون الذي أوّل النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان ، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق ، وتعاهد الدين ؛ فأمروا بالإيمان بذلك ؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذكر ، وأنهم على ذلك ، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بدّل من أوائلهم وتحريفهم ، إلا إن كانوا كذلك ؛ ليلزموهم التقليد في الأمرين ، والله أعلم.
وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم ؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعا ، ومع ما أن في القرآن وصفا بتصديق كتبهم ، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم ؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو ادّعى عليهم. وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم ، المكذبين برسلهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك ؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغيا وحسدا ، كما أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم.
والوجه الآخر من تأويل الآية : أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره ، لا حقيقة بياض النهار.
ثم ذلك يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون دعاه في أول الأمر إلى التوحيد ، والإيمان بالكتب المتقدمة ، وهم يدعون إلى ذلك ؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم ، لما أخذهم البغى وغلبهم الحسد ، وخافوا على رياستهم ، وأشفقوا على ملكهم ، وجزاء الشح ، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم ؛ فكذبوه في هذا ، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك ؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق ، ثم يكفرون به ؛ ليكون الأوّل ذريعة لهم في الثاني ؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له ؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك ، فأطلع الله نبيه ـ عليهالسلام ـ على ما أسرّوا ؛ ليصير ما ظنّوا أنه حجة لهم حجة عليهم ، وجملة ذلك : أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان ، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسرارا أطلع الله نبيّه صلىاللهعليهوسلم [عليه] ؛ ليكون حجة له ، وزجرا لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله ـ عليه أفضل الصلوات ـ بما يهتك عليهم ؛ فيفتضحون (١) عند من راموا ستر
__________________
(١) في ب : فيفضحون.