نزلت ، على ما قاله بعض أهل التأويل ؛ لأنه وصف ـ عزوجل ـ بعضهم بالأمانة في المال ، وإن كانت الأمانة لهم في الدّين والشهادة أمانة ، والله أعلم.
ويحتمل : أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة ، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة ؛ على ما ذكر ـ عزوجل ـ مثله في آية أخرى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] : وصف ـ عزوجل ـ من آمن منهم بالعدالة والهدى ، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن (١).
ويحتمل أن تكون الآية فيما ائتمنوا ، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن (٢) ولا كفالة (٣) ؛ وهو كقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ)
__________________
ـ ومنها : إدراك الشيء : تقول : شهدت الجمعة ، أي : أدركتها.
ومنها : الحلف ، تقول : أشهد بالله لقد كان كذا ، أي : أحلف.
ومنها : العلم ، قال تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المجادلة : ٦] أي : عليم ، والفعل من باب علم ، وقد تسكن هاؤه ، فتقول : شهد فلان شهادة ، وجمع الشاهد : شهد ، وشهود ، وأشهاد ، والمشاهدة : المعاينة.
وفي الاصطلاح :
عرفها الحنفية بأنها : إخبار بحق للغير على آخر.
وعرفها المالكية بأنها : إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه.
وعرفها الشافعية بأنها : إخبار صادق بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره ، في مجلس القضاء ولو بلا دعوى.
وعرفها الحنابلة بأنها : الإخبار بما علمه بلفظ خاص.
ينظر : لسان العرب (٤ / ٢٣٤٨) (شهد) ، النظم المستعذب (٢ / ٣٦٢) ، والفتاوى الهندية (٣ / ٤٥٠) ، وحاشية الدسوقي (٤ / ١٦٤) ، ومغني المحتاج (٤ / ٤٢٦) ، ونهاية المحتاج (٨ / ٢٧٧) ، والإقناع (٤ / ٤٩٣).
(١) قال القرطبي : ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم ، خلافا لمن ذهب إلى ذلك ؛ لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ، ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة ؛ ألا ترى قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)[آل عمران : ٧٥] ؛ فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه؟! ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.
ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٧٦).
(٢) الرهن ـ لغة ـ : يطلق على العين المرهونة. قال ابن سيده : الرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه ، يقال : رهنت فلانا رهنا ، وارتهنه : إذا أخذه رهنا.
واصطلاحا : عرفه الحنفية بأنه : جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون.
وعرفه المالكية بأنه : مال قبضه موثقا به في دين.
وعرفه الشافعية بأنه : جعل عين مال متموّله وثيقة بدين ليستوفي منها عند تعذر وفائه.
وعرفه الحنابلة بأنه : المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي من ثمنه إن تعذر استيفاؤه من ذمة الغريم.
ينظر : المحكم لابن سيده (رهن) ، والصحاح (٥ / ٢١٢٨) (رهن) ، ولسان العرب (٣ / ١٧٥٧) ـ