قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) : أوجب جعل السبيل إليه والإمكان ـ شرطا للوجوب ؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل ؛ وعلى ذلك جميع العبادات ، جعل الإمكان في وجوبها شرطا بالسمع بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة ؛ وكذا حق هذا بالفعل ، وذلك يخرج على وجهين :
استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب ، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال ، أو اشتغال ذلك بالفعل ؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه ، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته ، كفوت العلم به على الإمكان ، وإن كان لا يقوم دونه ، والذي يؤيّد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى ، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيّأ ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة ، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه ، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل ؛ فلذلك لم يجب (١) تكليف بالخروج ولا أمر بالحج ؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب ـ ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة ؛ وكذلك يجوز في الكفارات (٢) استعمال الأبدال في حال العجز (٣) ، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل ، بل على ظهور ألا يمتد بمضى البدل ـ ثبت أن لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف ، والله أعلم.
والثاني : يراد بالاستطاعة : سلامة الأسباب ، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل ؛ لأنه ممنوع ، ومحال أمر الممنوع عن الفعل ـ به ؛ كالأعمى ، والمقعد ، ونحو ذلك ، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة ، وهو اللازم في العقل ؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور ، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة ، والله أعلم.
__________________
(١) في ب : يجز.
(٢) الكفارات : جمع مفرده : كفارة ، وهي في الأصل صفة مبالغة ، كعلامة ، ثم غلب استعمالها اسما فيما يستر الذنب ويمحوه ، ومادتها مأخوذة من «الكفر» ، ومعناه : الستر ، ومنه سمى الليل : كافرا.
وفي الاصطلاح : هي اسم لأشياء مخصوصة طلبها الشارع عند ارتكاب مخالفات معينة.
انظر : لسان العرب (٥ / ٣٨٩٩) (كفر) ، البجيرمي على الخطيب (٤ / ١٤).
(٣) لورود التخيير في الآية ، انظر مثلا كفارة اليمين في قول الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) الآية [المائدة : ٨٩] وردت ب «أو» التي هي للتخيير.