ويحتمل : أن ينسى عليكم سيئاتكم في الجنة ؛ لأن ذكر المساوئ في الجنة تنقص عليهم نعمه ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنّه ينسيهم مساوئهم في الجنة ؛ لئلا ينقص ذلك عليهم ، والله أعلم.
وقوله : ـ عزوجل ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) :
وبادروا ـ أيضا ـ بالتوبة عن استحلال الربا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فمعنى ضرب مثل الجنة بضرب السموات والأرض ، وذلك ـ والله أعلم ـ ذكر هو أن للسماوات والأرض أحوالا ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق ؛ بقوله ـ عزوجل ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] ؛ وذلك أنهما عندهم من أشد الخلائق وأقواها ، فقال : إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشدّ وأقوى وأصلب ـ لقادر على إنشاء ما هو دونه ، وهو هذا العالم الصغير.
ووصف ـ أيضا ـ السّماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (سَبْعَ سَماواتٍ* شِداداً)(١) وغلاظا ، ثم أخبر ـ عزوجل ـ أنها مع غلظها وكثافتها تكاد أن تنشق لعظيم ما قالوا بأن لله ولدا وشريكا بقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ـ ٩١] ؛ ليعلموا عظيم (٢) القول وقبحه ؛ لئلا يقولوا في الله ما لا يليق به.
ووصف ـ أيضا ـ السّماوات والأرض بالدوام إلى وقت يبعد فناؤهما في أوهام الخلق ، وإن كانا فانيان بقوله ـ عزوجل ـ : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] ، فإذا كان للسماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق ، ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق ؛ من شدتها وقوتها ، وصلابتها وكثافتها وسعتها ـ شبه عرض جنته وسعتها بسعة السموات والأرض وعرضهما ؛ لما هما عند الخلق ليسا بذوي نهاية ، وإن كانا ذوي نهاية وغاية ؛ كما وصف أهل الجنة وأهل النّار بالدوام فيهما بدوام السّماوات والأرض ، وإن كانا فيهما غير دائمين أبدا ؛ لبعد فنائهما عن أوهام الخلق ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.
وفيه دلالة أن الجنة ذو نهاية المكان في العرض ، وإن لم تكن بذات نهاية الوقت وغايته ؛ لأنه ذكر العرض لها ، وكل ذي عرض يحتمل نهاية عرضه ـ والله أعلم ـ ولو لم يكن ذا نهاية من حيث العرض ، فكأن الله غير موصوف بالقدرة على الزيادة ، ومن زال عنه
__________________
(١) ورد ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [النبأ : ١٢].
(٢) في ب : أعظم.