يرحم أهل الأرض لم يرحمه أهل السّماء» (١) ؛ كما قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] الآية ، وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين ، إلا عند المعاندة والمكابرة ؛ فحينئذ أمر بالقتال ؛ كقوله لموسى وهارون ـ حيث أرسلهما إلى فرعون ـ فقال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، وكان اللين في القول أنفذ في القلوب ، وأسرع إلى الإجابة ، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول ، وذلك ظاهر في الناس ؛ لذلك أمر الله ـ عزوجل ـ رسلهم باللين من المعاملة ، والرحمة على خلقه ، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها ، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله :
(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا)
[في القول](٢)
(غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
أي : لو كنت في الابتداء فظّا غليظا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك (٣).
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) بأذاهم إياك ولا تكافهم ، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم.
ويحتمل قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)
بما عصوك ولا تنتصر منهم ، وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم ، وألا ينتصروا منهم بقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩] وكان أرجى للمؤمنين قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ؛ كما قال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ ..). الآية [الجاثية : ١٤] ، وقوله ـ أيضا ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] : لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل ، وإذا فعل لا يجاب ؛ فدل أنه ما ذكرنا ، والله أعلم.
وكذلك دعاء إبراهيم ـ عليهالسلام ـ : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] ، ودعاء نوح ـ عليهالسلام ـ : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ
__________________
(١) رواه البخاري (١٠ / ٤٥٢) : كتاب الأدب : باب رحمة الناس والبهائم (٦٠١٣) ، ومسلم (٤ / ١٨٠٩) : كتاب الفضائل : باب رحمته صلىاللهعليهوسلم ، رقم (٢٣١٩) ، ولفظه : «من لا يرحم الناس لا يرحمهالله» ، من حديث جرير بن عبد الله.
(٢) ما بين المعقوفين سقط من ب.
(٣) في ب : من عندك.