وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) :
كأنه يعاتبهم ـ والله أعلم ـ بقولهم : (أَنَّى هذا) ؛ فقال (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) : يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم ، والخلاف لنبيهم صلىاللهعليهوسلم ؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئا عن ارتكاب المنهي والخلاف لأمره ، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه ؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه ، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء (١) ؛ إذ كلهم عبيده ، فعاتبهم لما لم يعرفوا محنه ، و (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) ، ونحن مسلمون [نقاتل](٢) في سبيل الله ، وهم مشركون؟! فقال : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ، يقول : بمعصيتكم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وبترككم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره ؛ كقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].
قال الشيخ ـ رحمهالله ـ في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) : يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء ، أي : لو كان ما يقول محمد صلىاللهعليهوسلم من النصر له والرسالة (٣) حقّا ؛ فمن أين بلى بهذا؟! وذلك كقولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] ، وقولهم يوم الخندق : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] ، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام ، والله أعلم.
وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به ، وهم أنصار دين الله ، وقد وعد لأنصار دينه النصر ، وإن الذي ينصره الله لا يغلبه شيء ، وكان قد وعدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، أو بما كانوا رأوا الدّبرة (٤) عليهم والهزيمة من الأعداء ، فيقولون : بم انقلب علينا الأمر ؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن الله ، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم (٥) : فجائز ذلك بحق المحنة ؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر ، وللاجتماع على الطاعة أدعى ؛ إذ المحنة بمثله تدعو كلا إلى اتقاء الخلاف ، ومنع إخوانه ـ أيضا ـ عن ذلك ؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين ، والله أعلم
__________________
(١) في ب : يشاء.
(٢) سقط من ب.
(٣) في ب : أو الرسالة.
(٤) الدبرة : نقيض الدولة ، والعاقبة ، والهزيمة في القتال. ينظر : القاموس المحيط ص (٣٥١ ، ٣٥٢) (دبر).
(٥) في ب : جلهم.