وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) :
في الآية وجوه.
أحدها : أنه خلق السموات والأرض للبشر ومنافعهم ، لا أنه خلقهما لأنفسهما : لا منفعة لهما بخلقه إياهما ؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما ؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة ـ عبث ، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما ـ دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر ، وسخرهما لهم ، ثم جعل منافع السماء مع بعدها من الأرض متصلة بمنافع الأرض ؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر ؛ فيصيرهما كالمتصلين ؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما ؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد.
وكذلك : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : هما مختلفان : أحدهما ظلام والآخر نور ، يفنيان الأعمار ويقربان الآجال ، وليس بينهما في رأي العين تشابه ولا تشاكل ؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام ، وهما متضادان ، لكن خلقهما لمنافع البشر ، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسهم ، على ما ذكرنا أن لا منفعة لهم في خلقهم ، ثم صيّرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين ؛ لاتصال منافع بعضها ببعض ؛ دل أن منشئهما واحد ، وأنه عليم حكيم ؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيّرهما كالشكلين ؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك.
وفيهما دلالة البعث ؛ لأنهما يفنيان حتى لا يبقى من الليل أثر حتى يجىء النهار ، فيذهب النهار أيضا حتى لا يبقى من النهار أثر ، فيجىء آخر ، لا يزالان كذلك ، فإذا كان قادرا على خلق الليل وإنشائه من غير أثر بقي من النهار ؛ وكذلك قادر على إنشاء النهار من غير أن بقي من الليل أثر ظلام ـ لقادر على أن ينشئ الخلق ثانيا ويحييهم ، وإن فنوا وهلكوا ولم يبق منهم أثر ؛ فإذا كان ما ذكرنا من خلق السموات والأرض وما فيهما لمنافع البشر ، وهو المقصود من خلقهما لا غيرهم من الخلائق ؛ لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار ، وبين الخبيث والطيب ، وبين الحسن والقبيح ، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق ـ لا بدّ من أمر ونهي : يأمر بأشياء ، وينهى عن أشياء ؛ يمتحنهم على ذلك ؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر ؛ فإذا كان ما ذكرنا ، لا بد ـ أيضا ـ من دار أخرى للجزاء ، يكرم المطيع له فيها والولى ، ويعاقب العدو فيها والعاصي ، ولا قوة إلا بالله.
وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) :