وفيه دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه :
أحدها : ما قالوا : إنه لا يختار الله أحدا لرسالته ونبوته إلا من كان مستحقّا لها ومستوجبا لذلك ، وقد أخبر أنه بفضله واختصاصه أرسله رسولا ، وبفضله ورحمته أبقاها وتركها بعد ما أوحى إليه وأرسله رسوله.
والثاني : فيه أن له أن يفعل ما ليس هو بأصلح لهم في الدين ، حيث أوعد لهم برفع ما أوحى إليه [وأرسله](١) وإذهابه إياه ، ولا يوعد إلا بما له أن يفعل ما أوعد ؛ إذ لا يوعد بما ليس له الفعل في الحكمة ، ثم لا شك أن إبقاء النبوة وترك ما أوحى إليه أصلح لهم من رفعها وتركه إياهم خلوّا عن ذلك ، دلّ أنه قد يفعل ما ليس لهم بأصلح لهم في الدين.
وفيه أنه قد يكلف خلقه التوحيد والإيمان وإن لم يرسل رسولا ولا أوحى إليه وحيا ؛ لأنه معلوم أنه لو لم يرسل الرسول ، ولا كانوا مكلفين في أنفسهم ، لكان خلقه إياهم عبثا ليتركهم سدى ؛ فدل أنهم مكلفون بتوحيده ومعرفته وإن لم يرسل ولا أوحى ؛ حيث أخبر أن بعث الرسالة وإبقاءها فضل منه ورحمة بقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) :
وقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
أي : إبقاء النبوة والوحي رحمة من ربك ، وفضله ـ أيضا ـ في إبقاء ذلك كبيرا.
وفيه أن الحفظ والنسيان ـ وإن كانا من العبد ـ فلله فيهما صنع به يحفظ ؛ حيث قال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، أخبر أنه لو شاء ، لذهب بالمحفوظ في القلب وينسيه ؛ دلّ أن له قدرة في فعل العبد.
وفي قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وجه آخر من الحكمة ؛ وهو أن يعلم المؤمنون : أن الفضل كله من الله ؛ لئلا يروا لأنفسهم في ذلك فضلا ومعنى ، وإليه يضيفون جميع ما يجرى على أيديهم من أفعال الخير والطاعة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).
يشبه أن يكون هذا صلة قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، ثم لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه ، وقوله : بمثله ، أي : به ، كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] أي : ليس كهو شيء ؛ إذ لا مثل له ؛ فدلّ أن قوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، أي : لا يقدرون أن يأتوا به بعد ما عرفوه وعاينوه ؛ فلئلا يقدروا على
__________________
(١) سقط في ب.