(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً).
أي : لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم : قال أبو عبيدة (١) : (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) ، أي : معدلا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) قد ذكرناه وبيّناه في غير موضع ، وقوله : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل وجهين :
أحدهما : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ، أي : من كل صفة ؛ كقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [الروم : ٢٧] ، أي : الصفات العليا.
والثاني : المثل : هو الشبيه ؛ كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].
فإن كان التأويل : الشبيه ؛ فكأنه يقول ـ والله أعلم ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) ، أي : بينا (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم ؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم.
وإن كان تأويل المثل : الصفة ، فكأنه يقول ـ والله أعلم ـ : ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة : يعرفون بها ما لهم وما عليهم ، [و] ما يأتون وما يتقون ، والله أعلم.
وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).
قال أهل التأويل (٢) : (وَكانَ الْإِنْسانُ) يعني : الكافر (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) ، أي : جدالا ؛ كقوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ).
ويشبه أن يكون قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) ، أي : وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر ؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت ؛ حيث قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ...) الآية [الجن : ١] ، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك.
وقد ظهر [في] جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج ، من ذلك قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ...) الآية [آل عمران : ٦٦] ، وقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وقوله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] ، وقوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) [الكهف : ٥٦] ، وأمثال هذا ؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج ؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة.
وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدين على الوصف الذي ذكر ، والله أعلم.
__________________
(١) انظر : مجاز القرآن (١ / ٤٠٧).
(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٦٨).