وقال أهل التأويل (١) : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي : حيضة ملقاة ، وكذلك قال أبو عوسجة : النسي : الحيض.
قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل هذا ؛ لأنها قد عرفت قدرها عند الله ، فلا يحتمل أن تتمنى ما ذكر ، لكن الإنسان ربما يتمنى الأمر العظيم إذا اشتد به الأمر ، نحو ما يتمنى الموت في بعض الوقت لعظم ما يحل به ، فعلى ذلك غير منكر هذا من مريم أن تتمنى ما ذكر أهل التأويل ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَناداها مِنْ تَحْتِها). ومن تحتها اختلف فيه :
قال بعضهم (٢) : ناداها ملك.
وقال بعضهم (٣) : ناداها ابنها عيسى.
قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل أن يكون [الذي] ناداها ملكا ؛ لأنه قال : (مِنْ تَحْتِها) ، ولو كان ملكا لناداها من فوقها ، لكن هذا ليس بشيء ؛ لأن الملك إنما ينادي من حيث يؤمر ، من تحت ومن فوق.
وقال بعض أهل التأويل (٤) : ناداها جبريل من تحت الوادي : (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).
والأشبه أن يكون ابنها عيسى ؛ لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به ، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تسر هي بذلك ، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت.
ويحتمل حزنها من وجه آخر : وهو أنها كانت حزنت خوفا على نفسها وعلى ولدها ؛ لأنها أقامت في مكان لا ماء فيه ولا طعام ، فخافت على نفسها وولدها الهلاك ، فحزنت لذلك فبشرت حيث قال لها : (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) : أمنها عن الخوف الذي كان.
ثم السري : قال بعضهم من أهل التأويل (٥) : هو الجدول ، وهو النهر الصغير.
__________________
(١) قاله عكرمة : أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨١) ، وهو قول مجاهد والضحاك.
(٢) قاله البراء ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢).
(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٦٢٦ ـ ٢٣٦٢٩) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢) ، وهو قول قتادة والحسن وسعيد بن جبير وغيرهم.
(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٦١٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢) ، وهو قول الضحاك وعكرمة وعمرو بن ميمون وغيرهم.
(٥) قاله البراء بن عازب أخرجه ابن جرير (٢٣٦٣٧) وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٣) وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم.