تعاقبهم ، (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : أنفاسهم يتنفسون في الدنيا ، فهي معدودة تنقضي آجالهم عن قريب ، فلا تكافئهم على ذاك وما يستقبلونك بالمكروه والسوء.
ثم وجه ما ذكر من إرسال الشياطين عليهم والتمكين لهم من الوسوسة في الصّدور ، أعني : صدور المؤمنين ، والنزغ في روعهم من غير أن يملكوا القهر والقسر على ذلك ، وما جعلهم بمحل لا نراهم نحن ، وهم يروننا ، على ما أخبر (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] ، فهو ـ والله أعلم ـ أن من علم بحضرته وقربه عدوّا له يراقبه ويطلب الفرصة عليه يكون أحذر وأهيب له ممن لا يعلم ذلك ولا كان بقربه وحضرته عدو ، وعلى ذلك ما جعل الله ـ عزوجل ـ من الحفظة والكرام الكاتبين ـ صلوات الله عليهم ـ على بني آدم ، رقباء عليهم في قليل ما يفعلون ويتفوهون وكثيره ، وإن كان قادرا على حفظ ذلك عليهم والتذكير لهم واحدا بعد واحد ، شيئا على إثر شيء ، وذلك لما ذكرنا أن من علم أنّ عليه رقيبا يراقبه ويكتب عليه كل قليل وكثير كان أحذر وأهيب ممن لم يعلم ذلك على نفسه رقيبا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي : الذين اتقوا مخالفة أمر الله في كل ما لا يغلب عليهم ؛ لأن المؤمن لا يرتكب المعصية إلا لغلبة شهوة ، أو لغلبة رجاء إلى مغفرة ربه ونحوه ، أو توبة يضمرها بعد ارتكابها ، وعلى هذا يكون ارتكاب المؤمن مخالفة ربّه.
وقوله : (إِلَى الرَّحْمنِ) أي : إلى ما وعد لهم الرحمن من الثواب.
وقوله : (وَفْداً) الوفد في الشاهد : هم أهل الكرامة والمنزلة يبعثون لأمور ، فكأنه قال : إن المتقين يحشرون وهم مكرمون معظمون ، ولهم منزلة عند الله وقدر ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) ، الوارد : هو طالب الماء ، والورد الجمع ، فكأنه قال : ونسوق المجرمين إلى جهنم عطاشا طلاب الماء ، على ما قاله أهل التأويل.
والمجرم ، قال أبو بكر الأصم : هو الوثاب في المعصية ، وأصل الإجرام : الاكتساب ؛ ولهذا قال بعض النّاس في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢] أي : يكسبنكم ، وأصله هو كسب الإثم.
وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) فيه أنهم إنما يساقون على كره منهم ؛ إذ ذكر في الكافرين السوق وذكر في المؤمنين الجمع والحشر.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) [الشفاعة] إنما تكون فيمن استوجب