قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ) يحتمل وجوها :
أحدها : اجتباه للتوبة وهداه لها.
أو اجتباه ربه للرسالة وهداه لها.
أو اجتباه ربه للدين وهداه للتوحيد ، وهذا جائز عندنا ، للتوحيد والإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة ؛ لأنه مأمور بترك الكفر ونفيه في كل وقت ، فإذا كان مأمورا بترك الكفر في كل وقت منهيا عنه كان مأمورا بالإيمان والتوحيد ، فإذا كان ما ذكرنا دل أن للإيمان والتوحيد حكم التجدد والحدوث في كل وقت ، وإلا ظاهر قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) : أنه لم يكن يجتبيه قبل ذلك فاجتباه من بعد ، لكن الوجه ما ذكرنا من اجتبائه إياه للرسالة ، واجتبائه للتوحيد والطاعات والخيرات ونحوه ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).
قال الحسن : قوله : (اهْبِطا) أي : آدم والشيطان ، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، يعني : ذرية آدم وذرية إبليس بعضهم لبعض عدو (١).
وقال فيما قال : (اهْبِطُوا) [البقرة : ٣٦] عنى : آدم وحواء وإبليس ، والهبوط : ليس هو الانحدار والتسفل من المكان العالى المرتفع ، إنما هو النزول في المكان ، فجائز أن يكون قوله : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] أراد ذريتهما : ذرية آدم وذرية إبليس ، وعلى ذلك يخرج قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) يعني : الذرية ، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وقت اتباعه الهدى ، أو لا يضل ولا يشقى إذا ختم بالهدى ، أو لا يضل طريق الجنة ولا يشقى في النار ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) هو الشدة والضيق ، ثم اختلفوا فيه.
قال بعضهم (٢) : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) في الدنيا ، وإن كانت في الظاهر واسعة عليه ؛ لأنهم ينفقون ولا يرون لنفقتهم خلفا ولا عاقبة ، ويريدون الدنيا أنها تدوم ، فذلك يمنعهم عن التوسيع في الإنفاق ؛ خوفا لنفاد ذلك المال وبقاء أنفسهم ؛ لما ذكرنا أنهم لا يرون لنفقتهم خلفا ولا عوضا ولا عاقبة لها ، فذلك الضنك.
وقال بعضهم : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ؛ لأنهم يعصون بما أعطوا من المال وأنعموا فيه ؛ لأن توسعهم يكون في معصية ، فنفى عنهم الانتفاع به كما نفى عنهم السمع والبصر
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٠٣).
(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٤١٦) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٨).