جعلت الدنيا؟ وإلى ما فيها من سمومها وتنغيصها على أهلها ، فإن من نظر إليها لما فيها من سمومها وتنغيصها ، لزهد فيها ورغب عنها ، ومن نظر إليها وإلى عينها وظاهرها [و] ما هي عليها من الغرور والتزيين ، لاغتر بها ورغب فيها وركن إليها ، ومن نظر إلى حقيقة ما هي عليه وجعلت على ما ذكرنا لزهد فيها ورغب عنها.
ثم معلوم أن رسول الله لم يكن يمد بصره إلى الدنيا أو يركن إليها ويرغب فيها لها ، وإنما هو ابتداء نهي رسوله.
ومعلوم أيضا أنه لو رغب في شيء منها لم يكن يرغب ليتمتع هو به ، إنما يرغب ويتناوله ليوسع به على أهل الحاجة والفقر ، ثم نهاه عن ذلك ؛ فدل أن الزهد فيها والرغبة عنها خير من الأخذ منها والوضع في حق ؛ حيث نهاه عن ذلك على علم منه أنه لا يتناولها ليتمتع هو بها [و] ليوسع بها على نفسه ، ولكن يأخذها ؛ ليضعها في المستحقين لها.
ثم اختلف أهل التأويل في التقديم والتأخير :
قال الحسن : هو على تقديم قوله : (مِنْهُمْ) على قوله : (أَزْواجاً) يقول : تأويله : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به منهم أزواجا (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا).
فعلى تأويله : أزواجا : زهرة الحياة الدنيا ، أي : ألوانا وأصنافا من النبات ؛ فذلك زهرة الدنيا.
وقال بعضهم : على غير تقديم ، ولكن على سياق ما ذكر في الآية ؛ فعلى هذا يكون تأويل الأزواج ، أي : رجالا منهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ).
قال أهل التأويل (١) : أي : لنبتليهم ونختبرهم ، وكأن الفتنة هي المحنة التي فيها شدة وبلاء ، كأنه أخبر أنه إنما متعهم بما متع من زهرة الحياة الدنيا ليمتحنهم فيها بالشدائد ؛ كقوله : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥٥] ، وقال في آية أخرى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وقال : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، ففي هذه الآيات دلالة أن السعة والضيق فيها ليس لفضل أهلها ولا لهواهم ، ولكن إنما هو محنة يمتحنهم ، فيمتحن [بعضهم] بالسعة والغناء وبعضهم بالشدة والضيق ، فالتكلم بأن هذا خير من هذا كلام لا معنى له مع ما ذكرنا من البينات في قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) أن الزهد في الدنيا وترك التناول منها حلالا خير من التناول منها حلالا ووضعها موضعها.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى).
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٤٥٨) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٠).