دل قوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) : أنهم لم ينسبوا الولد إليه ، ولا قالوا ذلك : إنه اتخذ ولدا على حقيقة الولادة ، ولكن قالوا ذلك على الصفوة واصطفائه من أضافوا ونسبوا إليه ؛ لأن الذين قالوا : إنهم ولده من نحو عيسى وعزير والملائكة ليسوا كما وصفوا ، ولكنهم عباد مكرمون ، ثم أخبر بما أكرمهم فقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أخبر أنهم لا يتقدمون في قول ولا فعل إلا بإذن منه وأمر.
أو أن يكون قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي : لا يأمرون بشيء ولا ينهون عن شيء إلا بإذن من الله وأمر منه ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) هذا قد ذكرناه في سورة (١) «طه».
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، وقال في آية أخرى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] فيكون تأويل قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي : إلا لمن أذن له.
ثم يتوجه قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) إلى الشفيع ، أي : لا يؤذن لأحد بالشفاعة إلا من كان مرضيا مرتضى دينا وعملا ، ويتوجه قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) إلى المشفوع له : إلا لمن ارتضى عنه الرب مذهبا وعملا ؛ حتى لم يدخل في عمله تقصير.
ثم الشفاعة إنما جعلت في الأصل للتجاوز فيما دخل في العمل من التقصير.
ثم لا يخلو الذي يشفع له إما أن يكون صاحب الصغيرة فيجوز أن يعذب عليها ، أو أن يكون صاحب كبيرة ، ففيه دلالة التجاوز والعفو عن صاحب الكبيرة ؛ لأنا قد قلنا : إن الشفاعة إنما جعلت لمن منه التقصير في العمل ، ففيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن صاحب الصغيرة معفو عنه الصغيرة حتى لا يجوز أن يعذب عليها ، وصاحب الكبيرة لا يجوز العفو عنه والتجاوز ، بل هو معذب أبدا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) هذا ـ والله أعلم ـ كأنه صلة قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) الآية ، أي : من خشية عذابه وهيبته لا يتقدمون بقول ولا فعل ولا أمر ولا نهي ؛ خوفا منه وهيبة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٧٩).