إشفاقا على نفسه ، كما خرج رسول الله من بين أظهر قومه لما هموا بقتله ، لكن رسول الله خرج بإذن ، ويونس بغير إذن.
والثالث : خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة وأيس من إيمانهم خرج ليفرغ لعبادته ؛ إذ كان مأمورا بعبادة ربه ودعاء قومه إلى ذلك ، فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربّه ، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه ، فعوتب لذلك ، ولله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال بعضهم : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نضيق عليه ، ولا نبتليه بالضيق الشديد لما خرج من عندهم ، فيقال : فلان مقدر عليه ، ومقتر ، ومضيق عليه الأمر ، وهو كقوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء : ٣٠] أي : يضيق ، وقوله : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] أي : ضيق عليه رزقه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قالوا (١) : في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت.
وقال بعضهم (٢) : التقم الحوت حوت آخر ، فكان في بطن حوت ، وحوت آخر ، وظلمة البحر ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وحد ربّه ونزهه عن جميع ما قيل فيه ، ثم اعترف بذلته وذنبه (٣) فقال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٤) فسمع الله دعاءه ، وقبل توبته ، وأخبر أنه كشف عنه الغم الذي كان له حيث قال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) وأخبر أنه كذلك ينجي المؤمنين ، فيرجى أن من ابتلاه الله بالبلاء والشدة فدعا بما دعا به يونس أن يفرجه الله عنه ، حيث قال : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ؛ وعلى ذلك روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من دعا بدعوة ذي النون استجيب له» (٥).
ثم قال بعضهم : التقن (٦) ذلك من الأرض لما بلغ إلى قرار الأرض فقال ذلك.
وقال بعضهم : كان رجلا صالحا عابدا وكان عود نفسه ذلك قبل أن يدخل بطن الحوت ، فلما دخل فيه فكان يقول فيه على ما كان يقول من قبل ، وهو كقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ
__________________
(١) قاله ابن عباس وعمرو بن ميمون ومحمد بن كعب ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٤٧٦٩ ، ٢٤٧٧٠ ، ٢٤٧٧١) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٥٩٨).
(٢) قاله سالم بن أبي الجعد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٧٧٤) ، وانظر الدر المنثور (٤ / ٥٩٨).
(٣) ينظر : اللباب (١٣ / ٥٨٣ ، ٥٨٤).
(٤) ينظر : اللباب (١٣ / ٥٨٠ ، ٥٨٢).
(٥) أخرجه أحمد والترمذي (٣٥٠٥) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ١٦٨) ، والحكم في نوادر الأصول ، والحاكم وصححه ، وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٩٩).
(٦) ثبت في حاشية أ : التقن ، أي : فهم. شرح.