ثم قوله : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) في الطاعة والعبادة والذكر والتسبيح والتحميد ما دمت حيّا ، ولكن أشرك لي في العبادة والذكر من يعينني على ذلك ، وهو كقول موسى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) [طه : ٢٩ ـ ٣٤] وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٥ ، ٦] إذا مت.
أو أن يكون قوله : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) بعد مماتي في قبري ، ولكن هب لي من يذكرني ويدعو لي بعد وفاتي ويحيي أمري.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي : وأنت خير من يرث العبادة ، على هذا التأويل ، وعلى التأويل الأول : وأنت خير من يعين على العبادة والطاعة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) قال الحسن : إن كان يحيى على ما سماه الله في الطاعة والعبادة ، وفي الآخرة يحيى في الكرامات والثواب الجزيل ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) يخرج على وجهين :
أحدهما : أن جعلناها بحيث يرغب فيها زوجها ذات هيئة ومنظر ؛ لأنه ذكر في القصّة أنها بلغت في السن مائة غير شيء ، والعرف في النساء أنهن إذا بلغن المبلغ الذي ذكر أنها بلغت زوجة زكريا يكن من القواعد اللاتي لا يرغب فيهن أحد ، فأخبر أنه أصلحها وصيرها بحيث يرغب فيها ، ذات هيئة ومنظر.
والثاني : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي : ولودا بحيث تلد (١) ؛ لأنه لما بشر بيحيى قال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : ٨] والعاقر : التي لا تلد ، فيكون قوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) ولودا بحيث تلد ، والله أعلم.
هذان الوجهان محتملان.
وأمّا قول من يقول بأن في لسانها بذاء وطولا ، وفي خلقها سوءا فذلك لا يحل أن يقال إلا بثبت ، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم ، حيث قال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ثم المسارعة في الخيرات أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات ، وهكذا المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها ، إلا أن يمنعه شيء من شهوة أو سهو.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي : يدعوننا رغبا فيما عندنا من جزيل الثواب ، ورهبا من أليم عقابنا.
__________________
(١) قاله ابن عباس وسعيد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٤٧٨٠ ، ٢٤٧٨١ ، ٢٤٧٨٢).