والثاني : الصراط الذي في الدنيا هو المجعول للآخرة ؛ فإذا تركوا سلوكه ؛ لشهوات منعتهم عن ذلك ـ أنكروا الآخرة ، أو كلام نحو هذا ، وقوله : (لَناكِبُونَ) ، أي : لعادلون ، من العدول عنه والمجانبة والميل إلى غيره.
وقوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
ذكر الضر ، ولم يذكر أي شيء كان ، وليس لنا أن نقول : كان الجوع أو كذا إلا بثبت ، وفيه وجهان من المعتبر :
أحدهما : أن رفع المحن التي امتحنهم من البلايا والشدائد إنما يكون برحمة منه وفضل ، لا على ما قاله بعض الناس بالاستحقاق ؛ حيث ذكر رحمته بكشف ذلك عنهم.
والثاني : فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه أخبر أنه ، إن كشف ذلك الضر عنهم ، (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ؛ فكشف عنهم ذلك فلجوا في طغيانهم على ما أخبر ؛ فدل أنه بالله عرف ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ).
يخبر عن سفههم وجهلهم بالله ، وقسوة قلوبهم ، وتمردهم وعنادهم ؛ حيث أخبر أنهم وإن أخذوا بالعذاب لم يتضرعوا إليه ، وما استكانوا له بجهلهم بعذاب الله ؛ حيث أخبر أنهم ، وإن أخذوا [لم يستكينوا].
[وقوله :](حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).
اختلف في قوله : (مُبْلِسُونَ) :
قال بعضهم : المبلس : الآيس من كل خير ، وهو ما وصفهم أنهم : (لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود : ٩] ، و (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) [فصلت : ٤٩] ، ونحوه.
وقال الزجاج (١) : المبلس : الساكن المتحير لا يدري ما يعمل به فعلى ذلك هم كانوا حيارى لما نزل بهم العذاب ، لا يدرون ما يعملون به في دفع ذلك عنهم.
وقال الكسائي : المبلس : المقطع السيئ الظن ، قال : ومنه سمي إبليس ؛ لأنه أيس من رحمة الله ، وانقطع رجاؤه عنده.
وقال أبو عوسجة : [المبلس] البائس الحزين ، ويقال : أبلس الرجل ، أي : أيس فحزن ، وأبلس غيره أيضا ، وإنما سمي إبليس إبليس ؛ لأنه يئس عن رحمة الله فحزن.
قال : وقوله : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) ، أي : لم يذلوا لربهم بالطاعة له ، والخضوع لما ذكرنا.
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ٢٠).