كذلك ـ لا يحتمل أن يجعل لهم كل هذه النعم التي ذكرها وأنشأها لهم ، ثم لا يمتحنهم بالشكر على ذلك ولا يأمرهم بأوامر ولا ينهاهم بمناه ؛ فدل ما أنشأ لهم من النعم وسخر لهم من الأشياء أنهم يبعثون ويرجعون إليه ؛ حتى يجزون جميعا : المحسن جزاء [الإحسان والمسىء جزاء] الإساءة ؛ إذ في العقول التفرقة بين الولي والعدو ، وبين المحسن والمسيء وبين الشاكر والكافر ، ثم رأيناهم جميعا في هذه الدنيا عاشوا على سواء في الضيق والسعة ، لم نر ما يفصل بين الولي والعدوّ ، وبين المحسن والمسيء ، وبين الشاكر والكافر ؛ فدل ما لم يكن من التفرقة ما ذكرنا في هذه الدنيا على أن هنالك دارا أخرى دار الجزاء ، هناك يفصل بين ما ذكرنا في الجزاء ، والله الموفق.
(لا تُرْجَعُونَ) : لا تبعثون.
وقيل : لا ترجعون إليه بالأعمال التي عملتموها ، كقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦] ، وقوله : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت : ٦].
وقوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ).
أي : يتعالى الله عن أن يكون خلق الخلق منه عبثا ، أو يتعالى أن يكون خلق الخلق لا لحكمة. (الْمَلِكُ الْحَقُ). قال الحسن : الحق : اسم من أسماء الله ، أو الملك الذي خلق الخلق للحكمة.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : تنزيه وتبرئه عن جميع ما قالوا فيه.
وقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) يشبه أن يكون على الأوّل : يتعالى الملك الحق وربّ الملك الكريم عن أن يخلقهم لا للحكمة أو للبعث.
وقالت الباطنية : العرش : القيامة.
ونحن [نقول :] يشبه أن يكون العرش القيامة ، على ما قالوا هم ، إلا أنهم يقولون : هو قائم الزمان ، وقلنا نحن : هي القيامة المعروفة وهي الساعة ، ربّ القيامة وهي الملك الذي ذكرنا ؛ كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] : خص ذلك اليوم بالملك له ، وإن كان الملك له في الدارين جميعا ؛ لما لا يتنازع في ملكه يومئذ ، [و] قد نوزع في الدنيا ، فخلص له ملك ذلك اليوم وصفا له يومئذ.
وقال بعض أهل التأويل : العرش : السرير ، أضافه إلى نفسه ؛ لمنزلته عند الله ، والكريم : هو نعت ذلك السرير ، أي : الحسن ؛ كقولهم : (رجل كريم) ، أي : حسن ، وهكذا يوصف كل كريم بالحسن.
وقال بعضهم : هو نعت الرب ، أي : ذو عفو وصفح ، والله أعلم.