أو يقول : قدم على عمله يوم القيامة لم يجد عمله الذي عمل في الدنيا شيئا إلا كما وجد هذا العطشان هذا السراب ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه ، يقول : قدم على الله فوفاه حسابه ؛ أي : عمله.
وقال بعضهم : هذا المثل ضرب للكفار ؛ وذلك أنهم يبعثون يوم القيامة وقد تقطعت أعناقهم من العطش ، فيرفع لهم سراب بقيعة من الأرض ؛ فإذا نظروا إليه حسبوه ماء ؛ فأتوه ليشربوا منه فلم يجدوا شيئا ، ويؤخذون ثمة فيحاسبون ، وكذلك أعمالهم تضمحل يوم القيامة فلا يصيبون منها خيرا.
وقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ).
هذا مثل آخر ضربه الله لأحوال الكافر ؛ أو (كَظُلُماتٍ) جسده ، شبهه بظلمات ؛ وذلك أن البحر إذا كان عميقا كان أشدّ لظلمته ؛ فقال : والبحر اللجي : قلب الكافر ، (يَغْشاهُ مَوْجٌ) : فوق الماء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ) : فهو ظلمة الموج ، وظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، هذه ظلمات (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ، فكذا الكافر قلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم ، لا يبصر الإيمان كما أن صاحب البحر [إذا] أخرج يده في تلك الظلمة لم يكد يراها ؛ أي : لم يرها البتة.
أو أن يكون ضرب المثل بظلمات ثلاث بظلمات أحوال لا يزال يزداد ظلمة كفره في كل وقت وفي كل حال بعمله الذي يعمله ؛ كالظلمات التي ذكرها ؛ فكان كضرب المثل الذي سبق لأنوار أحوال المؤمن ؛ حيث قال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) والنور جسده وصدره وقلبه.
ثم قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) : ليس هو حرف شك ، ولكنه كأنه قال : إن ضربت مثل عمله بالسراب فمستقيم ، وإن ضربته بالظلمات التي ذكرها فمستقيم ، بأيهما ضربت فمستقيم صحيح ، لا أنه ذا أو ذا.
ثم ذكر في أعمال الكفرة مثلين : أحدهما : السراب ، والثاني : الظلمات. فجائز أن يكون في المؤمن أيضا مثلين : الظلمة التي ذكر مقابل النور الذي ذكر في المؤمن ، والسراب الذي ذكر لأعمالهم مقابل ما ذكر من أعمال المؤمنين (١) ؛ حيث قال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...) إلى قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).
قال بعضهم : من لم يجعل الله له إيمانا فما له من إيمان.
وقيل : هدى ، فما له من هدى ، وهما واحد.
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٠٨).