معاوية ، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة ، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره ، كما هم تابوا من كفرهم ، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين ، ولم يكتفوا بذلك ، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء ، ويسفكون الدماء ، فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين ، فلم يجد الامام بدّاً من قتالهم ، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، وفي الوقت نفسه هم المارقون ، والمعاندون لله ورسوله ، وفي حقّهم يقول الامام :
« إنّي فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها (١) ، واشتدّ كلبها (٢) » (٣).
هذه حياة الامام على وجه الاجمال ، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبيّ منذ صباه في موطنه ومهجره ، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلا غزوة تبوك ، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه.
ومع الأزمات التي خلّفت عثمان وعمّاله ، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس « استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة التي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه ، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب ، التجسيد الكامل للشريعة الاسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه ، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف ، وثبّت للاسلام دعائمه ، وأعاد إلى النفوس
__________________
١ ـ الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها.
٢ ـ الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء.
٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٩٣.