يتسابقون على الجهاد لكثرة ما انتهى إليهم من فضله ، ولتعاقب الفتوح التي مرّنتهم على الغزو وشوّقتهم إلى توسيع دائرة المملكة ، وحيازة الغنائم ، فلو كان الخليفة يروي لهم شيئاً ممّا لم يزل له نقر في آذانهم ، ونكت في قلوبهم لازدادوا إليه شوقاً ، وازدلفوا إليه رغبة ، وكان يعلّم العالم منهم من لم يعلم ، لا أنّهم كانوا يتفرّقون عنه كما حسبه الخليفة ، ولو كان يريد تفرّقهم عنه إلى الجهاد فهو حاجة الخليفة إلى مجتمعه وحاجة المجتمع إلى الخليفة الذي يكتنفون به ، فهي مقصورة من الجانبين على التسرّب إلى الجهاد والدفاع والدعوة إلى الله تعالى ، وإلى دينه الحقّ وصراطه المستقيم ، لا أن يجتمعوا حوله فيؤنسونه بالمعاشرة والمكاشرة ؛ إذن فلا وجه للضنّة بهم عن نقل تلكم الروايات.
وأمّا ثالث الأحاديث فهو من حاجة الناس إلى أميرهم في ساعة السلم ، وأيّ نجعة في الأمير هي خير من بعث الأمّة على إحسان الوضوء ، والصلاة بعده التي هي خير موضوع وهي عماد الدين ، ووسيلة إلى المغفرة ، ونجح الطلبات ، وأحد أصول الإسلام ، فلما ذا يشحّ به الخليفة فيحرم أُمّته عن تلكم المثوبات والأجور؟
وأمّا الآية التي بعثته على التنويه بالحديث ، فليته كان يدلّنا عليها ويعرب عنها ، وقد كانت موجودة منذ نزولها ، وفي إبّان شحّ الخليفة على رواية الحديث ، فما الذي جعجع به إلى هذا التاريخ ، وأرجأ روايته إلى الغاية المذكورة؟ ولعلّه أراد ما نصّ عليه أبو هريرة ، فيما أخرجه الجصّاص في آيات الاحكام (١) (١ / ١١٦) عن أبي هريرة أنّه قال : لو لا آية في كتاب الله عزّ وجلّ ما حدّثتكم ، ثمّ تلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) (٢). قال الجصّاص : فأخبر أنّ الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من البيّنات والهدى الذي أنزله الله تعالى.
__________________
(١) أحكام القرآن : ١ / ١٠٠.
(٢) البقرة : ١٥٩.