وقال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) : يعنون بالمحلّل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). والقول بهذا بعيد عن نطاق فهم القرآن وعرفان أسباب نزول الآيات ، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة ، وأنّى للقائل من ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين؟ ولأعلام القوم في المقام بيانات ضافية قيّمة نقتصر منها بكلام (٢) الجصّاص ، قال في أحكام القرآن (٣) (٢ / ١٩٩) : إنّ الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على الأخرى ؛ إذ كلُّ واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى ، وذلك لأنّ قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وارد في حكم التحريم كقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ... وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وسائر من ذكر في الآية تحريمها. وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وارد في إباحة المسبيّة التي لها زوج في دار الحرب ، وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما ، فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبيّة وبين زوجها وإباحتها لمالكها ، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأُختين ، إذ كلّ واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى ، فيستعمل حكم كلّ واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه. قال :
ويدلُّ على ذلك أنّه لا خلاف بين المسلمين في أنّها لم تعترض على حلائل الأبناء وأُمّهات النساء وسائر من ذكر تحريمهنّ في الآية ، وأنّه لا يجوز وطء حليلة الابن ولا أُمّ المرأة بملك اليمين ، ولم يكن قوله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) موجباً لتخصيصهنّ لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى ، كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع عليّ رضى الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على تحريم الجمع بين الأُختين يدلُ
__________________
(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، والآية : النساء : ٢٤.
(٢) الظاهر أنه قدسسره ضمّن (نقتصر) معنى (نكتفي) فعدّاه بالباء.
(٣) أحكام القرآن : ٢ / ١٣١.