الخليفة ـ وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيهاً للعاصمة عن معرّتهم ، وتطهيراً لها عن لوث بقائهم فيها ، أفهل يُساوى أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أُمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق منه ، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبّه ، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنّة ، والثلاثة الذين يحبّهم الله تعالى. أفهل يساوى من هو هذا بالطريد اللعين؟ فيشوّه ذكره بهذه التسوية ، ويشهر بين الملأ موصوماً بذلك ، ويُمنع الناس عن التقرّب إليه ، وينادى عليه بذلّ الاستخفاف ، ويُحرَم الناس من علومه الجمّة التي هو وعاؤها ، ولعمر الحقّ ، وشرف الإسلام ، ومجد الإنسانيّة ، وقداسة أبي ذر ، إنّ النشر بالمناشير ، والقرض بالمقاريض أهون على الدينيّ الغيور من بعض هاتيك الشنائع.
ثمّ إنّ تأديب الخليفة للرعيّة إنّما يقع على من فقد الآداب الدينيّة وطوّحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة. وأمّا مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بما لم يُطرِ به غيره ، وقرّبه وأدناه وعلّمه وإذا غاب عنه تفقّده ، وشهد أنّه شبيه عيسى بن مريم هدياً وسمتاً وخلقاً وبرّا وصدقاً ونسكاً وزهداً. فبما ذا يؤدّب؟ لما ذا؟ وأيّ تأديب هذا يراه النبيّ الأعظم بلاءً في الله؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول : مرحباً بأمر الله. وبم ولم استحقّ أبو ذر التأديب؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه ، ويراه مولانا أمير المؤمنين غضباً لله ويقول له : «فارجُ من غضبت له» (١).
نعم ؛ يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدّب للناس لما حمله من علم النبوّة وأحكام الدين وحكمه ، والنفسيّات الكريمة ، والملكات الفاضلة التي تركته شبيهاً بعيسى بن مريم في أُمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ما بال الخليفة يتحرّى تأديب أبي ذر وهو هذا ، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة؟
__________________
(١) راجع ما مرّ في هذا الجزء صفحة : ٣٠٠. (المؤلف)