عليه ، وقد مات في المنفى فريداً وحيداً لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أو يجهّزه بعد موته فيتوثّب عليه حتى الخنافس والديدان ، غير أنّ له يوماً آخر يُحشر فيه أُمّة واحدة ، هنالك تُبلى السرائر ويُعلم ما ارتآه أبو ذر وما رُمي به ، ذلك يوم مشهودٌ له الناس ، والحكم هنالك لله الواحد القهّار.
٤ ـ ما عزا إليه من الحدّة ، وهو ينافي تشبيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إيّاه بعيسى بن مريم في هديه وخلقه ونسكه وزهده (١) فهو ممثّل المسيح عليهالسلام في هذه الأُمّة ، وأنّى تقع الحدّة منه؟ إلاّ أن يدعوه إليها الدين كما هو من خصال المؤمنين الموصوفين بالوداعة بينهم ، والخشونة في ذات الله ، وأبو ذر في الرعيل الأوّل منهم ؛ فليس من المستطاع أن نخضع لصحّة هذه الرواية ، وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرّبه ويدنيه ويحبّه.
فلا تكاد تنهض حجّة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح ؛ لأنّ المعلوم من حال أبي ذر هو ما أخبر به النبيّ الصادق الأمين ، وعلى فرض صحّتها قضيّة في واقعة لا تعدو أن تكون فلتة ليست لها لدة ، ولعلّها صدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب إليه شرّاح صحيح البخاري (٢) وبمثلها لا يمكن أن تثبت لأبي ذر غريزة الحدّة فيحمل ما صدر منه في المقام عليها.
وكأنّ الرجل هاهنا ذهل عمّا ذكره في كتابه مسائل الجاهليّة (ص ١٢٩) من قوله : إنّ أبا ذر رضى الله عنه قبل بلوغه المرتبة القصوى من المعرفة تسابّ هو وبلال الحبشي المؤذّن فقال له : يا ابن السوداء. فلمّا شكا بلال إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم قال له : «شتمت بلالاً وعيّرته بسواد أُمّه؟» قال : نعم. قال : «حسبت أنّه
__________________
(١) راجع : ص ٣١٢ ـ ٣١٤ من هذا الجزء. (المؤلف)
(٢) راجع فتح الباري لابن حجر [١ / ٨٧] ، وإرشاد الساري للقسطلاني [٣ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ح ١٤٠٦] ، وعمدة القاري للعيني [٨ / ٢٦٢ ح ١١]. (المؤلف)