وهذا الذي اختاره وينبأ به غير مختار ، وهو مذهب أبي الحسن ، يجوز أن تكون الكاف اسما في فصيح الكلام ، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر ، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره ، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله : فصيروا مثل : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (١). وحمله على ذلك ، والله أعلم ، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى ، صار المعنى عنده على الزيادة ، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل ، لا يمثل المثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن ، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد نارا ، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة. وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد نارا وجوه ذكروها : الأول : أن مستوقد النار يدفع بها الأذى ، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه ، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر. الثاني : أنه يهتدي بها ، فإذا انطفأت ضل ، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام ، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمة كفره. الثالث : أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها ، كذلك المنافق ، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه. الرابع : أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه ، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة ، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار. الخامس : أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب ، قاله مجاهد : السادس : شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد ، والضلالة المشتراة بالظلمات. السابع : أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه ، روي معناه عن الحسن ، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل.
وروي عن ابن جبير ، وعطاء ، ومحمد بن كعب ، ويمان بن رئاب ، أنها في اليهود ، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها : الأول : أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة ، واليهود لما كانوا يبشرون بالنبي صلىاللهعليهوسلم ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون ، شبه حالهم بحال المستوقد النار ، فلما بعث وكفروا به ، أذهب الله ذلك النور عنهم. الثاني : شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بنار المستوقد ، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد. الثالث : شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد نارا ، فلما
__________________
(١) سورة الفيل : ١٠٥ / ٥.