لا يكون إلا من عند أنفسهم؟ فهو نظير ، ولا طائر يطير بجناحيه. وقيل : يتعلق الجار والمجرور بقوله : يردونكم ، ومن سببية ، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم.
(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) : تتعلق من هذه بقوله : ود ، أي ودادتهم كفركم للحسد المنبعث من عند أنفسهم. وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يعزب عليهم وضوح الحق ، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد. وهذا يدل على أن الكفر يكون عنادا. ألا ترى إلى ظاهر قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ)؟ قال ابن عطية : واختلف أهل السنة في جواز ذلك. والصحيح عندي جوازه عقلا ، وبعده وقوعا ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني حال من العناد. انتهى كلامه ، والألف واللام في الحق ، إما للعهد ، ويراد به الإيمان ، ويدل عليه جريانه قبل هذا ، أو الألف واللام للاستغراق ، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه.
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) ، قال ابن عباس : هي منسوخة بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١). وقيل : بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٢) ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ، لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته. (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) : غيا العفو والصفح بهذه الغاية ، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية ، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح. وقال الكلبي : هو إسلام بعض واصطلام بعض. وقيل : آجال بني آدم. وقيل : القيامة ، وقيل : المجازاة يوم القيامة. وقيل : قوة الرسالة وكثرة الأمة ، والجمهور على أنه الأمر بالقتال. وعن الباقر : أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل أذن للذين يقاتلون ، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم ، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا ، لأن ذلك كفر. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : مر تفسير هذه الآية ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين. ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح ، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء؟.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : لما أمر بالعفو والصفح ، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه ، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس ، فأمروا بالوقوف بين يدي
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٩.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ٥.